كل خميس .. ورحل المبروك..
> أنفق عمره القصير في احتمال الناس دون أن يؤذي أحداً أو يرمي بكلمة من كلماته القليلة التي يتفوه بها في وجه أحد. وقد اختصه الله بالقليل من الكلام والكثير من السلام وعوَّضه عن ذلك بركة غمر بها الدار التي آوته وهي تقدم الخير لكل نفس بشرية طوَّفت بجناحيها عليهم أو يممت عتبتهم المباركة ترجو من خيرهم ونعيمهم وعظيم عطائهم.
> كان (ابراهيم) عليه رحمة الله، ينسج بطاقة المشي التي وهبها الله له علاقاته بعدد قليل من بيوت المدينة الصغيرة التي عاش فيها جُل سنوات عمره المبارك، وهو عندهم (المبروك) الذي اختصر الكلام كله في أربع أو خمس كلمات يعالج بهن حواره وسجاله وعلاقاته مع الناس من حوله، وقد عاش حياته كلها دون أن يلتقط حجراً حتى يقذفه في وجه الصبية وهم يستدرجونه ليطاردهم.
> أنعم الله عليه بوالده (حسن)، وبوالدته (ست البنات بت حسان) عليهما رحمة الله، وقد جمع بينهما الخير الذي أغدقاه على كل سائل وصاحب حاجة، وأنعم الله عليه بالدار التي تعلَّم فيها إبراهيم كلمة (إتفضل) من بين الكلمات القليلة التي يفهم معناها ويدرك حقيقتها ويتفوه بها ويسارع بها من أمام باب الدار المفتوح والمشرع أمام كل عابر حتى أنفق والده كل ماله في الناس وعلى الناس، يقضي لهم حاجاتهم ولا يرد أحداً حتى أدركه الموت فقيراً لا يملك من حطام الدنيا إلا محبة الناس وتقديرهم له وهم يحيطونه برضائهم، ولم ينقطعوا عنه في مرضه حتى أسلم الروح لبارئها راضياً مرضياً عنه، وقد لحقت به رفيقة دربه دون أن تنتظر طويلاً وكأنها تستعجل اللحاق به في دار يكرم الله سبحانه وتعالى فيها من يكرمون الناس في ديارهم في الحياة الدنيا.
> يطلق (ابراهيم) روحه وهي تطوف وسط الناس، يسعدهم بحضوره القوي وملائكيته التي فطره الله عليها، لا يمله جليسه ولا يغادره حتى يغادر هو ويرحل بهدوء الى ساحة أخرى داخل حراك الناس، وكأنهم كانوا ينتظرونه على حر من الشوق لتنزل عليهم بركاته وتتحرر أجسادهم مثله وهو في الحقيقة روح هبط عنها جسدها ولا تستعيده إلا في ساعة متأخرة وقد أنهكها التعب لتستريح عليه قبل أن تبدأ جولة جديدة من طواف الروح فتتخلص منه على فراشه في صباح يوم جديد فتخرج مترافقة مع شروق الشمس.
> طبع إبراهيم حياة المدينة بطبعه وروحه وصار معلماً بارزاً وطعماً مستساغاً كأنه النيل يجمع الناس جميعاً على ضفتيه ويغسلهم بطهره ونقائه، ويكسيهم برضائه وهم يتخلصون من أوزارهم وأحقادهم وخلافاتهم ويقبلون على بعضهم البعض وهو يتوسطهم. وهكذا ألفوه وأحبوه وتعودوا عليه وصار قاسمهم المشترك بحضوره القوي في مناسباتهم وتجمعاتهم والأصوات في تلك اللحظات لا تسمعها إلا وهي تصرخ بندائه.. إبراهيم.. إبراهيم.. إبراهيم.. كل واحد منهم يريد أن يفوز بلفت انتباهه إليه ليمازحه ويعانقه دون الآخرين.
> ملأ حياة أهله بلطفه وأصبح صديقاً للجميع وهم يهربون إليه كلما أبصروه ليحاصروه حتى صار زخمهم ونفسهم وربيع مجتمعاتهم وهي تنعقد على وقع حضوره وتنفض عند رحيله حتى فاجأهم الموت وهو يهرب بإبراهيم ويرحل به لتنهار ركيزة بناها إبراهيم من طين فطرته السليمة وبراءة السنوات الطويلة القصيرة، وهي تلاحقه لتبقيه في داخلها، وبكاه الناس بطريقتهم التي أحبوه بها وأقاموا له جنازة محتشدة كل واحد منهم كان يبكيه بطريقته ولوعة رحيله المُر تسيطر على المشهد برمته..
> اللهم أرحم إبراهيم رحمتك الواسعة وألحقه بوالديه في الفردوس الأعلى وأحسن العزاء لجميع أهلنا في شبشة و لإخوانه وذويه.
الشاذلي حامد المادح
الانتباهة