عيونهم التي تَرَانَا
كلُّ كتابة عن مُعاناة الأَسرى الفلسطينيين الأبطال، لكي تأخذ مصداقيّة فاجعتها، تحتاج أن يكون كاتب المقال، كما قارئه، قد خَبَرَا الجوع الاختياري الطويل، وقرَّرا عن مبدأ، الدخول في زمن قهريٍّ، لا يُقاس بمقياس الزمن العادي. زمن يتمرَّد على الساعة البيولوجيّة للإنسان، التي تتحكَّم في تقسيم يومه حسب الوجبات الثلاث، وإقناع هذا الجسد الذي لا يملك منطقاً سياسياً، بأنّ الواجب أهم من الوجبة، وبأنّ الكرامة ثمنها المجاعة، والدخول في غيبوبة الزمن الطويل المفتوح على الوهَن، وعلى الأمراض المزمنة.. وعلى احتمال الموت جوعاً وظمأً.
لم أختبر هذا الجوع النَّبيل الأليم، الذي يردُّ به الأسير الأعزَل إلاّ من جسده، بتجويع هذا الجسد مَنعاً لإذلاله وتركيعه. ولا أدري إنْ كنتُ سأقدر عليه لو أنَّ الحياة وضعتني أمام اختباره.
لكنني أعتقد أنّ الكتابة عن محْنة هؤلاء الأبطال، في مُواجهة معركة الجوع، تتطلّب منا شيئاً من الحيـاء، وبعض الخجل أمام النفس أولاً. فليس في إمكانك الكتابة عن إضراب جــوع، انضمَّ إليه الأَسرى الأطفال، والأَسرى المرضى، بامتناعهم عن تناول الدواء، وذهب المئات إلى حَدّ التهديد بالامتناع عن شرب الماء، ردّاً على الحرب النفسية التي تُشَـنُّ ضدَّهم. لا يمكن الكتابة عن هؤلاء، وأنت قائمٌ لِتَوِّك من طاولة الغداء العامرة بما يَحْلَم به أطفال جِياع في عمر أولادك. وإلاّ، ما الفرق إذن بينك وبين جلاّدهم، الذي اعتاد شَيّ اللحم في الساحات الْمُقابِلة لزنزاناتهم، حتى تترك رائحة اللحوم المشويّة آثارها النفسيّة والمعنويّة في الْمُضربين، وتزيد من ألـم جوعهم؟
إنْ كنتَ لا تَرَى الأَسرى، فعيونهم تَرَاكَ، حيث هُم في زنزاناتهم، بأجساد وَهِنَةً ضــاق بها الهَوَان العربي، وأنهكها الدفاع عن كرامتهم الإنسانيّة في أبسط حقوقها، التي هي بعض كرامتك.
لــذا، إنْ لم تكُن جاهزاً لمواساتهم بالجوع، ولو يوماً واحداً، ولا بالامتناع عن التهام ما لَـذّ من طعامك،فلا تكتب عنهم.
أنت لن تُبرّئ ذِمَّتك بمساندة ذَوي البُطون الخاوية.. بفائض الكلام، ولن تُوفي دينك تجاههم بتمجيد الجوع، والتغنّي ببطولة رجال، ثَمِلت بدمائهم الأرض العربية.
في تلك الزنزانات أهلا لي، أُناسا أحبّهم ويُحبّونني حَـدِّ الإحراج العاطفي. مازال صوت بعضهم عالقاً في أُذني. كَـأولئك الذين كانوا يتّصلون بي قبل سنوات، من سجن عسقلان، من هاتف مُهرَّب، لإبلاغي سلامهم وأُمنياتهم في الحصول على نسخة مُوقَّعة من ذاكرة الجَسَد، تَصِلهم عابرةً ما لا يُحصَى من الأيدي و الحواجز.
لا أدري ما أخبار هؤلاء البواسل الجميلين، وهل مازال في عيونهم نَظَرٌ يَقوَى على القراءَة؟ يُحزنني ألاّ أستطيع من أجلهم شيئاً، عَـدَا إحساس بالذنب يُلازمني. يَشْهَد اللّه أنني ما اشْتَهَيتُ شيئاً طيِّباً إلاّ واستحيت من اشتهائي له، و ما جلست إلى طاولة الأكل إلاّ ووقَفَت عيونهم بيني وبينه.
حدث قبل أعوام أن طالبت بإطلاق مبادرة عبر الفايسبوك ، بإعلان يوم صيام عربي شامل ، دَعْمَاً للأسرى الفلسطينيين، في معركتهم ضدّ التعذيبب والإذلال والمهانة ، وتضامنًا معهم في إضرابات الجوع المفتوحة . هل مازال هذا الإقتراح ممكناً اليوم ؟ أم تغيّر العالم حدّ نسياننا مآسيهم !