هيثم كابو

اليمني وذكرى الرحيل المر


* صافحت حنجرته الندية الآذان عبر أثير (هنا أم درمان) في عام 1963م وهو يصدح شادياً:
(إن بقت طابت وجات عديل
وتمشي زي ما كانت قبيل
فوقي نذر أب قرنا كبير)
* غريب أمر بدايته ومختلف عن أقرانه تماماً، فعندما جاءت إطلالته الإذاعية الأولى وقتها لم يكن يدرك أهل الشمالية بصورة عامة ومنطقة (القرير) تحديداً أن ابنهم الذي أكمل ثلاث سنوات في القوات المسلحة قد احترف الغناء، وحتى الحاجة آمنة عبد الرحمن والدة الفنان القامة الراحل عثمان عبد الرحمن علي الشهير بـ(عثمان اليمني) استمعت لابنها وهو يغني لأول مرة عبر الإذاعة ولم تكن تدرك أنه يمتلك موهبة الغناء ولم يسبق لها أن سمعته يغني في حفل بالمنطقة، عانق صوت اليمني الآذان لأول مرة عبر أثير (هنا أم درمان) في وقت كان الفنانون خلاله يقضون سنوات طوالا في انتظار تحقيق حلم دخول أستديوهات الإذاعة السودانية..!!
* رحلة عثمان اليمني بدأت من منصة الإنطلاق حيث لم يكن يغني في حفلات ومناسبات (القرير) قبل ظهوره الإذاعي، وأدهشت روائعه أهله وأقاربه وأبناء منطقته مثلما فعلت بمتذوقي الفن الرصين على امتداد ربوع السودان..!!
* لا يختلف اثنان على المكانة الرفيعة التي يتبوأها الفنان الكبير عثمان اليمني الذي يعتبر (نخلة معطاءة) لم تبخل بإبداعها على الناس عبر مشوار طويل حصاده أكثر من (500) أغنية تضم أكثر من (150) أغنية وطنية.. قدم أعمالاً رسخت في الأذهان وحفظها الكثيرون عن ظهر قلب بعد أن حفرت عميقاً في الوجدان..!!
* قلنا من قبل إن اليمني عانى في سنوات عمره الأخيرة من الفشل الكلوي.. صارع ويلات المرض ببسالة.. الابتسامة لم تكن تفارق وجهه حتى عندما كنا نزوره في مستشفى ابن سينا أو الشرطة.. بورصة حميمية سلامه و(جميل مطايبته) في ارتفاع مستمر.. سيل الحكاوى لا ينقطع عن لسانه.. قفشاته وخفة ظله لم تستطع يد المرض أن تمتد إليها.. يقاوم الآلام ببسالة.. تتدهور حالته الصحية كثيراً ولكن معنوياته لم تنخفض يوماً.. إيمانه بأن المرض ابتلاء.. جعله كنخيل الشمال يقف شامخا بروحه بالرغم من أن جسده ممدد على السرير.. كان قوياً نبيلاً يقدر مشاعر الناس بصورة مدهشة.. لا يعرف الاعتذار عندما تقدم له رقاع دعوة للمشاركة في محفل وجوده فيه ضرورياً، ولم يسبق له (الكسر بخاطر) مجموعة من محبيه تجمعوا لتكريمه.. كان يضغط على نفسه في أحايين كثيرة ويأتي على (عجلة متحركة) ويدندن فتقف مشاعر الناس احتراماً له قبل افتتانها بنداوة الصوت الذي ينطلق مجلجلاً في الأرجاء بكامل الحلاوة من حنجرة بديعة تسكنها عصافير التطريب والطلاوة..!!
* برحيل عثمان اليمني الذي مرت ذكراه الثانية دون أن يتوقف عندها أحد فقد الفن السوداني ركناً، وتيتمت أغنية الطمبور.. كانت روائعه تدخل القلوب غازية مقتحمة، لذا لم ينحصر محبوه في المنتمين لمنطقة الشمال والقاطنين داخل جغرافية (الدليب).. امتد عطاؤه وتمدد غناؤه فقدم لأغنية الطمبور خدمة لا تقدر بثمن..!!
* زرته كثيراً أثناء فترة مرضه، ومهاتفاته لي لم تنقطع، وما دخلت عليه مرة إلا وصافحتني ابتسامته قبل كفه.. قبل رحيله بفترة قصيرة كنت ميمماً وجهي شطر الخرطوم برفقة صديقنا الحبيب مولانا ميرغني عبد الرازق كننه بعد أن قمنا بواجب عزاء بجبل أولياء، وفي طريق العودة ونحن على مشارف الخرطوم طلب مني مولانا كننه أن نذهب لمشوار ليس بعيداً عن الطريق الذي نسلكه ولم يحدد لي الجهة.. اعتذرت له لأن الساعة كانت وقتها الثامنة مساء ولدي التزام بكتابة مقال (اليوم التالي) ووقت تسليمه قد أزف ولم أسطر فيه حرفاً واحداً، وأحمد الله كثيراً أن مولانا أصر على أن ارافقه وقال لي: (المشوار دا زيارة مريض ودا عمل خير وواقفين علي حيلنا ما بنقعد المهم نصل).. وكانت المفاجأة أن سيارة مولانا كننه وقفت أمام منزل اليمني بضاحية جبرة، وكانت تلك آخر مرة أرى فيها ابتسامته المشعة.. ضحكنا على عجل وأصر بكرمه الفياض أن نشرب العصير (حتى لو واقفين علي رجلينا).. وعدته بزيارة قادمة (نقعد فيها بي مهلة نتونس ونضحك ويحكي ونسمع) ولكن للأسف يد المنون كانت أسرع..!
* نسأل المولى سبحانه وتعالى لعبده عثمان اليمني الرحمة والمغفرة ولأسرته وأهله ومحبيه الصبر والسلوان، ونحن نجتر هذه الحروف في ذكرى رحيله الثانية كنا نتمنى من أهل الطمبور أن يقيموا له ليلة وفاء فالرحل نافس نخيل الشمال في العطاء .
وقفة:
* ما هذا العبث الذي تفعله الإذاعة الطبية، ولماذا هذا الصمت من قبل وزارة الإعلام؟ و(بعد بكرة في الموضوع دا عندنا كلام).
نفس أخير
* بعدك كل العارفات الدرب لاصن
وحتى نخلات الشمال اتماصن..!!