دائما ما أفكر في مصير “آدم” بعد المغيب: هل يشرب الحليب .. فعلى الأقل قصته “قبل المغيب” تبدو معلومة للجميع لكنهم عاجزون أن يمدوا له يد المساعدة وينتشلونه من مصير مظلم وكابوس مرعب.
كسائر من يستغلون المواصلات من محطة الشرقي بضاحية الطائف يومياً، بخلاف الزحام الذي عرف به (تقاطع) هذا الطريق ربما ليس ثمة ما يلفت الانتباه خلا بعض الحادثات العابرة؛ هنا ثمة صبية مشردون، وستات للقهوة يقدمن خدماتهن الممتازة والشاي المبهر للزبائن تحت ظلال أعمدة الكهرباء.. (البوري الكلاكس) سيد المشهد والصور تغدو متشابهة يوميًا حال عاودن المرور من هنا عدة أيام متتالية.. لن يقطع تلك الصور غير حدث مفاجئ في ذات المكان، من شاكلة زوار جدد يحطون رحالهم في المحطة.. أولاء ربما كانوا غير مألوفين بالضرورة لمن يرتاد هذا المكان بشكل دائم، لكنهم الآن أصبحوا من سكانه أيضاً.. هي قصتنا ومعرض سطورنا التاليات؛ (مشردة وطفلها البائس).
حكاية “آدم”
في حوالي الرابعة من عمره.. لم تُغبر أرجله الصغيرتين سكة المدرسة.. ولم يسمع بعد أن ثمة وزارات للرعاية الاجتماعية أو دواوين للزكاة في البلاد.. بعد حوالي أسبوعين من ملاحقة هذه القصة عرفت أن اسمه (آدم).. معه امرأة على الدوام حسب ما قدرت هي والدته.. هي أيضاً في حركة دائبة طوال النهار بملابسها الرثة وتجلس لأوقات طويلة جوار (الشرقي).. لا تحادث أحداً ولا تتكلم إلا مع ابنها الوحيد.. إلى الجوار منهم كلب صغير يملأ حياة (آدم)؛ يحمله بين ذراعيه الصغيرتين معظم الوقت، ولا يتورع من ربطه بحبل حال قاوم (الجرو) وحاول أن ينفك منه.
لحظات العقاب
الآن إلى المشهد الأقسى؛ يشقى الصغير طوال يومه جراء ضرب مبرح يتلقاه من السيدة معيته.. لأي سبب من الأسباب حتى لو عنف جروه الصغير، فإن الضرب في انتظاره وبلا رحمة، لو ابتعد عنها قليلاً مرمى حجر فلينتظر الضرب.. يظهر ذلك تماماً عندما تدقق في شفتيه أو بقية جسمه.. ثمة كدمات متفرقة ونزيف لا يبرأ.. أتاحت لي إحدى لحظات العقاب التي يتعرض لها من رؤية جسده بالكامل، وحيث لا شئ يلفت الانتباه فالمشاهد الإنسانية المؤثرة للأسف لم تعد تعني أحداً؛ ربما بسبب المكان شبه المتحضر الذي يرتاده أناس مسرعين إما لأخذ “التيك أوي” أو لركوب المواصلات، لكن وكما عرفت لاحقاً أيضاً فأن معاناة آدم ربما كانت معلومة للجميع لفرط تكرارها قبالة أعينهم بشكل دوري.
“فنلة صفراء وسروال”
ملابسه الرثة لا تكفي لتخفيف (ضربات الأم). وفي الحقيقة لم يكن آدم يرتدي في ذلك اليوم ملابسه.. أنا أحفظها عن ظهر قلب؛ (فنلة صفراء وسروال).. كان مهموماً في تلك اللحظة بغسلها كواجب حتمي، أو عقاب مضاف.. تصب المرأة، التي افترضُ أنها والدته رغم تلك القسوة، تصب المياه وآدم يفرك فانلته الصفراء، تنهمر الدموع من عينيه.. هذه المهمة لا يعرفها من هم في سنه.. مرة أخرى تعاود المرأة صب الماء والصغير يبكي، ولا خيار أمامه سوى الاستمرار.. في تلك اللحظة كان آدم (عارياً).. تقريبا لا يخلو جزء جسمه من آثار الضرب.. من حوله العشرات ممن يحملقون في هذا المنظر، لم يحرك أحدهم ساكناً، أكمل آدم مهمته وأكملت أنا معه دموعي.
لا شيء غير الضرب
يعاني آدم منذ أن التقيته من آثار الضرب، وربما قبل ذلك، ولا سبيل أمامه لكي يغادر حجرها.. لم أره أبداً يتناول طعاماً طوال مراقبتي اللصيقة التي تمتد لأكثر من ساعتين على الأقل في اليوم الواحد.. وعلى العكس فطالما طلبت المرأة معيته كوب شاي من البائعات اللائي تشاركهن الشارع، ليس له صوت مسموع، لكنه يتحدث مع كلبه، للأسف لم أر آدم مبتسماً الا قليلاً في لحظات كان يحمل (جروه) الصغير إلى أعلى ويداعبه على بلاط المطعم المشهور بـ(استوب الشرقي). باختصار؛ يعاني الصغير طوال اليوم من مفاجآت أمه وسيل ضرباتها التي لا تتوقف أبداً في كل الأحوال؛ لو أسعدها أو أغضبها، إذ سرعان ما تدخل في همهمة وتردد بصوت مسموع وهي تنهال عليه (أنا قدرك).. وفي بعض المرات وهي تضربه (مشيت وين)؟ وفي أغلبها (ماتشاغل الكلب ده جيبو هنا).
“حجر الغاضبة”
لا أعتقد إن آدم حزين أو فرحان، فهو على الأقل لا يملك ترف التعبير عن مشاعره، ونادراً بالضرورة ما يدخل في نوبة من اللعب، حتى في الأسفلت الذي يقطنه، مادامت صيحات المرأة تقطع عليه الطريق أمام لحظات طفولته الضائعة، كما أن تعنيفها الدائم لم يترك له مجالاً حتي ليتذكر أنه طفل، أو أن هنالك سعادة وحزن ولعب ولهو وضحكات، ومن النادر إن داعبته والدته بضحكة أو تبادلت معه ابتسامة، وحيث لا يهتم آدم لحياته خاصة مع الملاحقة الدائمة فإن المجال أمامه مغلق للتفكير في الهروب فهو لا يعرف غير حجر تلك الغاضبة منه دائماً.
جدوى المنظمات وما عداها من جهات
مسرح حياة الصغير ملئ بالأشخاص، رغم عدم اكتراثهم نهائيا بما يعانيه، فهو يقضي قبالة أحد المطاعم السياحية ساعات مقدرة من صباح يومه، والمارة يشاهدون الصفعات على وجهه، أصحاب المحال التجارية هم الآخرون الأكثر علماً بحياة آدم، لكن لا أحد يمد يد المساعدة لانتشاله من براثن مأساته، ولم يحدث أن نال المرأة صوت اعتراض على طريقتها في تربية الطفل الصغير، ربما لاعتقاد يلازم الكثيرين هنا أنها ربما كانت مريضة نفسياً، وهو سبب كافٍ لتسريع مسألة احتواء الأسرة الصغيرة أو الاقتراب منها للتعرف على مأساتها، مثلما أن الجهات المسؤولة لديها دورها في حماية الطفولة وملاحقة آثار التشرد. على كل؛ فقد فكرت كثيرا في مصير آدم الذي تشتد عليه اللكمات يومياً، ويزداد الضغط الذي يتعرض له، وتساءلت عن جدوى عشرات المنظمات التي تدعي رعايتها للأطفال المشردين، أو تناهض ما يتعرض له الأطفال الذين بخلاف آدم يتمتعون بحياة مستقرة مع أسرهم، وتسلط عليهم الميديا كل زخمها حال تعرضوا لمشهد مماثل في قاعات الدرس مثلاً.
* المصير المظلم والكابوس المرعب
في أحد الأيام دارت الدائرة على من نفترض أنها والدة آدم؛ فقد فاجأها أحد المعتوهين بضربة حجر قبل أن يناوش عدداً من الطالبات المارات بالشارع.. انهال المعتوه العابر على الوالدة ففوجئت إثر المباغتة، وصاحت بكل ما تملك، قبل أن ترد هي الأخرى على (غزوة) المعتوه بحجرين على وجهه. كان آدم في تلك اللحظة بعيداً قليلاً، يحاول أن يلم ما تجود به أحد أكياس القمامة في الشارع، وبعد أن انفضت المشاجرة (المجنونة)، كان علي آدم أن يأخذ حصته من رد الفعل.. بقوة وعنف زائدين أطبقت المرأة علي وجه آدم ورمت به داخل شجيرات كثيفة على الشارع قبل أن تنتشله منها، وتوبخه على إهمالها وتركها لذلك المجنون. بكي الصغير مستسلمًا أمام غلظة والدته وسرعان مانسي دموعه ومد يده ليصطحبها في رحلة المجهول، في تلك اللحظة كان صاحب الدكان يعلق: “ياخ المرة دي بتعمل في الولد جنس عمايل وبتعذبو شديد”.. يا للهول ..! كما أسلفت؛ فالجميع يعلم قصة آدم لكنهم عاجزون أن يمدوا له يد المساعدة وينتشلونه من هذا المصير المظلم والكابوس المرعب.
* هل يشرب الحليب؟
كنت دائما افكر في مصير آدم بعد مغيب الشمس وحينما يرخي الليل سدوله، هل يشرب الحليب، وتحكي له والدته قصة فاطنة السمحة والغول؟ فهذه الساعات بالذات لم اتمكن من معايشة مأساته، فهما يختفيان من المحطة ولم أجد لهما أثراً بقدر ما بحثت عن ملجئهما الليلي، يا ترى هل تمارس الوالدة العنيفة مع المسكين ذات العسف الصباحي؟ لا أبدو متفائلاً أبداً، فهي لم تتورع من فعلها بالصغير في رابعة النهار وأمام مرأى ومسمع المارة، فكيف لها عندما يخلوان؟ ترى هل ينام في حضنها، أم أنه يصبح ساهراً طوال الليل؟ ففي لقائي الصباحي معه دائمًا ما يكون في أسوأ حالاته، وكأنما هنالك من ظل ينازعه طوال الليل، أو أنه قادم لتوه من معركة استمرت لساعات طويلة.. مرهقا بدرجة تضطره للخلود للنوم في باحة المطعم بلا نهاية، وبالتأكيد لو حاولت أن أسأله فإنه سيكون ناقمًا على هذه الرفقة المتعبة.
* محنة آدم
محنة آدم ليست ككل الأطفال المشردين، ففوق سني عمره التي لم تمكنُه بعد من الخبرة في هذا الدرب الشاق، فإنه يبدو فاقداً لعطف وحنان الأمومة، ومن مأمنه يؤتى الحذر.. فعلى الأقل يتصدى الأطفال المشردون لحيواتهم بخبرة، وفي الغالب لديهم أساليب حماية أو يحتمون بمجموعاتهم، لكن آدم مهيض الجناح.. أو قل إن حالته خاصة؛ فهو مع والدته لا يعرف فيما يبدو عداها في هذه الحياة، ولم يتح له العقل والتفكير (طرق) باب الهروب من وجهها، وكما يتراءى لي فإن عنفها يصبح أهون آلاف المرات من أي مصير آخر ربما.. يا للأسى!!
هكذا يوميات حياة الطفل الصغير (آدم) مليئة بالحسرات، خالية من الابتسامات، وها أنذا أرجوكم لو مرت سطوره عليكم أن تبحثوا عنه لتنقذوه من مصيره المحتوم، لا استبعد لو وجدت جثة آدم مرمية في محطة الشرقي وقد لفظ أنفاسه الأخيرة إثر ضربة طائشة، أو امتدت إليه أيادٍ لخنقه وكتم أنفاسه. من العيب أن يلقى آدم نهايته في هذا المجتمع الذي عرف بقيمه، أو أن توثق عريضة في إحدى النيابات وفاة “آدم”.. ولمعلوميتكم؛ فان مسرح هذه الجريمة ليس بعيدًا عن المركز، ومباني الكثير من اللافتات السياسية المتحكمة في زمام الأمور من محلية إلى ولاية وليس انتهاء بلافتات الدولة، كما أنه أمام عشرات المنازل التي يخلد أطفالها للنوم برعاية أسرهم، لكن للأسف فإن “آدم” لايعرف من أين يبدأ طريق الخلاص..؟!
صحيفة اليوم التالي
لا ادري هل ضاعت الرجولة والشهامة اذا كانت القصه من نسج خيال الراوي فلكم العتبي حتي ترضو واذا كانت من الواقع المعاش فالنترحم علي علي شهامتنا ورجولتنا وانسانياتنا وعلي كل ضمير مات فينا كنت احسب ان للرواي نهاية سعيده لادم وانه تدخل وقام باقل واجب والابلاغ عن هذه السيده المعتوها ولااظن ان عقلها سليم ولايمكن لام ان تفعل هكذا في فلذت كبدها لابد انها ليس امه ولاتمت له باي صلة ولابد ان يتم البلاغ عنها والتحقيق معها ومعرفة اذا كان ابنها ولا لا والكشف علي عقلها ووضع هذا الطفل في مكان امن . مايحيرني ان كل من في هذه المنطقه يعلم تمام العلم بقصة ادم ولايفعلون شئ معقول مايحدث هذا واقع وان الناس تبلدت الاحساس والمشاعر اتمني ان تكون قصة ادم من نسج الخيال والا فالنترحم علي موت الضمير السوداني
و انت بس قاعد تراقب فيه، اتحرك اعمل ليهم حاجة تكون في ميزان حسناتك، و لا انت داير ليك موضوع تكتب فيه و تعمل ليك شهرة، حليب في عينك