حكم التهنئة بشهر رمضان!
ما حكم التهنئة بقدوم شهر رمضان المبارك، حيث سمعنا من ينكر ذلك، ويرى أنه من البدع؟ نرجو الإفادة مشكورين.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه،أما بعد:
فهذا بحث مختصر حول: حكم التهنئة بدخول شهر رمضان، حاولت أن أجمع فيه أطرافه، راجياً من الله تعالى التوفيق والسداد.
وقبل البدء بذكر حكم المسألة لا بد من تأصيل موضوع التهنئة
فيقال: التهاني -من حيث الأصل- من باب العادات، والتي الأصل فيها الإباحة، حتى يأتي دليل يخصها، فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر.
ويدل لذلك -ما سيأتي- من تهنئة بعض الصحابة بعضاً في الأعياد، وأنهم كانوا يعتادون هذا في مثل تلك المناسبات.
يقول العلامة السعدي -رحمه الله- مبيناً هذا الأصل في جواب له عن حكم التهاني في المناسبات.؟ -كما في “الفتاوى” في المجموعة الكاملة لمؤلفاته (348)-:
“هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز، فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمن مفسدة شرعية، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
فهذه الصور المسؤول عنها وما أشبهها من هذا القبيل، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد.
أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدأ بشيء من ذلك، فالذي نرى أنه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم، لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور ويشوش الخواطر.
ثم اعلم أن هاهنا قاعدة حسنة، وهي: أن العادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضار ما يلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جداً ” ا هـ كلامه.
وقد طبق الشيخ -رحمه الله- هذا عملياً حينما أرسل تلميذه الشيخ عبد الله بن عقيل خطاباً له في أوائل شهر رمضان من عام 1370هـ، وضمنه التهنئة بالشهر الكريم، فرد الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- بهذا الجواب في أول رده على رسالة تلميذه: “في أسر الساعات وصلني كتابك رقم (19/9) فتلوته مسروراً، بما فيه من التهنئة بهذا الشهر، نرجو الله أن يجعل لنا ولكم من خيره أوفر الحظ والنصيب، وأن يعيده عليكم أعواماً عديدة مصحوبة بكل خير من الله وصلاح ” اهـ. كما في الأجوبة النافعة (ص:280)، وفي صفحة (284) ضمن الشيخ رسالته المباركة في العشر الآواخر.
وللشيخ -رحمه الله- كلام في منظومة القواعد -كما في المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي (1/143)- يقرر فيه هذا المعنى،وللمزيد ينظر (الموافقات) للشاطبي (2/212-246) ففيه بحوث موسعة حول العادات وحكمها في الشريعة.
فإذا تقرر أن التهاني من باب العادات، فلا ينكر منها إلاّ ما أنكره الشرع، ولذا: مرّر الإسلام جملة من العادات التي كانت عند العرب، بل رغَّب في بعضها، وحرّم بعضها، كالسجود للتحية.
وبعد هذه التوطئة يمكن أن يقال عن التهنئة بدخول الشهر الكريم:
قد ورد في التهنئة بقدومه بعض الأحاديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أذكرها جملة منها، وهي أقوى ما وقفت عليه، وكلها لا تخلو من ضعف، وبعضها أشد ضعفا من الآخر:
1- حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: “أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم”. أخرجه النسائي (4/129) ح(2106)، وأحمد (2/230،385،425) من طرق عن أيوب، عن أبي قلابة -واسمه عبد الله بن زيد الجرمي- عن أبي هريرة –رضي الله عنه-.
والحديث رجاله رجال الشيخين، إلا أن رواية أبي قلابة عن أبي هريرة مرسلة، أي أن في الإسناد انقطاعاً ينظر: تحفة التحصيل لأبي زرعة العراقي (176).
والحديث أصله في الصحيحين -البخاري (2/30) ح(1899)، ومسلم (2/758) ح(1079)- ولفظ البخاري: “إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين “ولفظ مسلم: “إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة -وفي لفظ (الرحمة)- وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين”.
قال ابن رجب (رحمه الله) في “اللطائف” (279): “وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان،…. ثم ساق هذا الحديث، ثم قال: قال العلماء: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضاً في شهر رمضان”.
2- حديث أنس –رضي الله عنه- قال: دخل رمضان،فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم”.
أخرجه ابن ماجه ح(1644) من طريق محمد بن بلال، عن عمران القطان، عن قتادة، عن أنس –رضي الله عنه-.
وهذا الإسناد ضعيف لوجهين:
الوجه الأول: أن فيه محمد بن بلال البصري، التمار.
قال أبو داود: ما سمعت إلاَّ خيراً، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العقيلي -في “الضعفاء” (4/37) ترجمة (1584)-: “بصري يهم في حديثه كثيراً”، وقال ابن عدي -في “الكامل” (6/134) -: “له غير ما ذكرت من الحديث، وهو يغرب عن عمران القطان، له عن غير عمران أحاديث غرائب، وليس حديثه بالكثير، وأرجو أنه لا بأس به”.
وحديث الباب من روايته عن عمران، فلعله مما أغرب به على عمران.
وقد لخص الحافظ ابن حجر حاله بقوله في “التقريب” (5766): “صدوق يغرب”.
الوجه الثاني: أن في سنده عمران بن داوَر، أبو العوام القطان، كان يحيى القطان لا يحدث عنه، وقد ذكره يوماً فأحسن الثناء عليه -ولعل ثناءه عليه كان بسبب صلاحه وديانته، جمعاً بين قوله وأقوال الأئمة الآتية-، لكن قال أحمد (أرجو أن يكون صالح الحديث )، وقال مرةً ( ليس بذاك )، وضعفه ابن معين، وأبو داود، والنسائي، وقال الدار قطني: كثير الوهم والمخالفة، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ينظر:
“سؤالات الحاكم للدار قطني” (261رقم445 )، “تهذيب الكمال” (22/329)، “الميزان” (3/236)، “موسوعة أقوال الإمام أحمد في الرجال” (3/121).
وقال الحافظ ابن حجر ملخصاً أقوال من سبق: “صدوق يهم، ورمي برأي الخوارج” كما في “التقريب”: (5150).
وعمران هذا روى الحديث عن قتادة، ولم أقف له على متابع، فهذا مظنة الضعف والغرابة.
وذكر الإمام البرديجي كلاماً قوياً يبين فيه حكم الأحاديث التي يتفرد فيها أمثال هؤلاء الرواة عن الأئمة الحفاظ، فيمكن أن ينظر: “شرح العلل” (2/654،697) لابن رجب، ونحوه عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1/7).
وقتادة -بلا ريب- من كبار الحفاظ في زمانه، روى عنه جمعٌ كبير من الأئمة، كما قال الذهبي في “السير” (5/270): “روى عنه أئمة الإسلام، أيوب السختياني، وابن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، ومسعر بن كدام، وعمرو بن الحارث المصري وشعبة،…..” ثم ذكر جملة منهم، فأين هؤلاء من هذا الحديث؟
3- حديث سلمان –رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في آخر يومٍ من شعبان، فقال: “أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء”.
قالوا ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم؟! فقال: “يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من النار، واستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما اللتان لاغنى بكم عنها: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومن أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة”.
أخرجه الحاكم في صحيحه (3/191) ح(1887)، وهو حديث لا يصح، فقد سئل أبو حاتم عنه -“العلل” لابنه (1/249)- فقال: “هذا حديث منكر”، وقال ابن خزيمة -في الموضع السابق-: “إن صح الخبر”، وقال ابن حجر في إتحاف المهرة 5/561: “ومداره على علي بن زيد، وهو ضعيف”.
وخلاصة تضعيف هؤلاء الأئمة لهذا الخبر تعود إلى أمرين:
– ضعف علي بن زيد.
– ومع ضعفه فقد تفرد به،كما قال الحافظ ابن حجر.
وبهاتين العلتين يتضح وجه استنكار أبي حاتم -رحمه الله-.
وقد ذهب الجمهور من الفقهاء إلى أن التهنئة بالعيد لا بأس بها، بل ذهب بعضهم إلى مشروعيتها، وفيها أربع روايات عن الإمام أحمد (رحمه الله)، ذكرها ابن مفلح (رحمه الله) في (الآداب الشرعية 3/219)، وذكر أن ما روي عنه من أنها لا بأس بها هي أشهر الروايات عنه.
وقال ابن قدامة في “المغني” (3/294): “قال الإمام أحمد (رحمه الله) قوله: ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد: تقبّل الله منا ومنك، وقال حرب: سئل أحمد عن قول الناس: تقبل الله منا ومنكم؟ قال: لا بأس، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل: وواثلة بن الأسقع؟، قال: نعم، قيل: فلا تكره أن يقال: (هذا يوم العيد)؟، قال: لا….”.
فيقال: إذا كانت التهنئة بالعيد هذا حكمها، فإن جوازها في دخول شهر رمضان الذي هو موسمٌ من أعظم مواسم الطاعات، وتنـزل الرحمات، ومضاعفة الحسنات، والتجارة مع الله.. من باب أولى. والله أعلم.
ومما يُستدَل به على جواز ذلك أيضاً: قصة كعب بن مالك –رضي الله عنه- الثابتة في الصحيحين من البشارة له ولصاحبه بتوبة الله عليهما، وقيام طلحة (رضي الله تعالى عنه) إليه.
قال ابن القيم -رحمه الله- ضمن سياقه لفوائد تلك القصة في “زاد المعاد” (3/585):
“وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال: يهنك بما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربّها، والدعاء لمن نالها بالتهني بها”.
ولا ريب أن بلوغ شهر رمضان وإدراكَه نعمةٌ دينية، فهي أولى وأحرى بأن يُهنّأ المسلم على بلوغها، كيف وقد أثر عن السلف أنهم كانوا يسألون الله عز وجل ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وفي الستة الأخرى يسألونه القبول؟، ونحن نرى العشرات ونسمع عن أضعافهم ممن يموتون قبل بلوغهم الشهر.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: “ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة: بمشروعية سجود الشكر، والتعزية -كذا في الموسوعة الفقهية التي نقلت عنها-، وبما في الصحيحين عن كعب بن مالك…) نقلاً عن الموسوعة الفقهية الكويتية، (14/99ـ100)، وينظر: وصول الأماني، للسيوطي، وقد بحثت عن كلام الحافظ في مظنته ولم اهتد إليه، وينظر: وصول الأماني، (1/83) (ضمن الحاوي للفتاوى ).
خلاصة المسألة:
وبعد هذا العرض الموجز يظهر أن الأمر واسع في التهنئة بدخول الشهر، لا يُمنع منها، ولا ينكر على من تركها. والله أعلم.
هذا، وقد سألت شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عنها فقال: “طيبة”، وكذلك سألت شيخنا العلامة (محمد بن صالح العثيمين) رحمه الله عن التهنئة بدخول شهر رمضان، فقال: (طيبة جدّاً)، وذلك في يوم الأحد 8/9/1416هـ، حال بحثي في هذه المسألة.
وقد سئل العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- (صاحب الأضواء) عن الصفة الشرعية للتهنئة برمضان والمناسبات الأخرى كالعيدين؟ فأجاب رحمه الله بجواب مطول، خلاصته: أنه لا يعلم صفة معينة في هذا الشأن إلا ما ورد في العيدين -كما سبق نقله- وأن الإنسان إذا اقتصر على الوارد كان أفضل، لكن لو ابتدأه غيره فلا حرج أن يجيبه من باب رد التحية بخير منها، فلو اتصل الإنسان على أخيه، أو زاره وقال له: نسأل الله أن يجعل هذا الشهر عونا على طاعته، أو يعيننا وإياكم على صيامه وقيامه، فلا حرج إن شاء الله، لأن الدعاء كله خير وبركة، لكن لا يلتزم بذلك لفظاً مخصوصاً، ولا تهنئة مخصوصة. نقلاً من شريط: (آداب الاستئذان).
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا البحث، وما كان فيه من صواب، فإن كان كذلك فمن الله وحده، وإن أخطأت فأنا أهلٌ لذلك، وأستغفر الله وأتوب إليه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتب أصله في شهر شعبان عام 1417هـ، وأعيدت كتابته وصياغته بإضافات كثيرة في 27/8/1422هـ.
الإسلام اليوم