الترابي.. حياة الأفكار 13
لئن كانت الحرية هي الحافز على الخلق والأبداع والإبتكار في العلوم والآداب والفنون فإن الشورى هي الوسيلة الأجدى في نشر إبداع العلوم والآداب والفنون . والتفاعلية الي تتيحها الشورى هي التي تنشر منتجات الأبداع وخمائره وفسائله بين الناس . والمشيئة الإنسانية الحرة لا تزداد تحرراً إلا بالمزيد من التفاعل بين الناس. فالآخرون ليسوا هم الجحيم كما يقول سارتر، بل الآخرون هم من يرفدون الفرد بافكارهم و أفعالهم . وما الفكرالإنسانى إلا تراث متراكم متنامي . فكما لا تنبت النبتة إلا من بذرة أو فسيلة فلا تنبت الفكرة إلا من بذرة أو فسيلة لفكرة سابقة . والإنسان لا يعلم من علم شيئاً إلا إذا تعلم من الآخرين السابقين أو المعاصرين . وهو لا يُدرك معنى تراتبية القيم المادية والمعنوية إلا إذا تعلمها من تجربته بتفاعله مع الآخرين وخبرتهم التي يأخذها عنهم . والشورى هي هذه التفاعلية بين الفكرة والفكرة والرأي والرأي . والمتفاعل بالشورى مع الأغيار إنما يقطف ثمرة أفكارهم وأراءهم كما يقطفون ثمرة فكره ورأيه . وشار في اللغة تعني قطف وأشتار وشار الثمرة أو الزهرة يعني قطفها والقطف في جوهره إختيار فهو في جوهره حرية أيضاً.
الشورى .. تفاعل الأفكار
والدكتور الترابي يعود بالشورى إلى فكرته المركزية فكرة التوحيد. فالشورى عنده (حكم يصدر عن أصول الدين وقواعده الكلية قبل ان تقرره الأدلة الفرعية من نصوص الشرع) فإسلام الربوبية لله يعني الإعتقاد بان العلم والقدرة كلها لله وإنما يقبس البشر من علم الله باقدار متفاوتة بكسوبهم ومواهب الله لهم . ولا يستطيع فرد من البشر مهما أوتي من كسب ومن موهبة أن يحيط علماً بظاهرة واحدة من ظواهر الحياة حتى يكون هو العليم بها . فلابد له من علم سابق ومن علم حاضر يتفاعل مع ما يعلمه عن تلكم الظاهرة . ولا يكون العلم كاملاً ولا كافياً إلا باجتماع العلوم . ولا يكون الفهم كاملاً إلا باجتماع الفهوم . ولا يكون الرأي صائباً إلا باجتماع الآراء. فالناس جميعاً متحدون هم خليفة الله على الأرض على ما أذن لهم من علم وقدرة ، ولن يقوموا بحق الإستخلاف إلا إذا توحدوا أمة واحدة عابدة قابسة ومقتبسة من علم الله ، ومستعينة بقوته وقدرته على مكابدة إبتلاءات الحياة العلمية والعملية. ولكل فرد نصيبه من العلم ومن القدرة قل أو عُظم بحسب كسبه وحسب موهبة الله له. وفكرة التفاعل إنما يكون قيامها على ان لكل فرد عطاء يعطيه في مجال الفكر وفي مجال العمل . ولا يحب ان يُحقر فكر انسان بسبب وضعه الإجتماعي من فقر أو غنى ، أو بسبب جنسه أو لونه أو نوعه ذكراً أم أنثى . ولا يحب أن يُحقر عمل عامل قط بسبب قلته أو كثرته. فالحياة في أصلها هي مكابدة الفكر والواقع ولا ينبغي لأحد من الناس أن يحجر على أحدٍ آخر حقه في مكابدة الحياة بفكره وبعمله . فالله خلق الناس جميعاً ومنحهم مواهبه ودعاهم إلى استعمالها لتكثير الخير في الفكرة والعمل . وجعل كل واحدٍ منهم مسئولاً بقدر ما علمه وبقدر ما أعطاه . فلكل انسان كسبه الخاص المترتب عن فكره وعمله وله نيته خلصت أم لم تخلص . وهو محاسب في الدنيا على فكره وعمله ، وهو محاسب في الأخرة على فكره وعمله ونيته. والناس أفراد متنوعون وهذا التنوع والتفاوت هو الذي يصنع كمالهم . فلا كمال لهم على مستوى الفكر أو مستوى العمل إلا بالتكامل . ولا يكون تكامل إلا بتفاعل الفكروتشارك العمل . والشورى في جوهرها هذا التفاعل بين افكارٍ تؤدي إلى إحسان العمل وإكتماله.
الشورى والتنشئة الإجتماعية
إن اولئك الذين يضاهنون بين الشورى والديمقراطية مخطئون فالشورى هي خلق يتبدى في كل نشاط اجتماعي يقوم به الإنسان . فهي ليست محصورة في النشاط السياسي للإنسان كما هي الديمقراطية . فالشورى هي قدرة الإنسان على التفاعل الخلاق مع الجماعة . ولذلك فهي تبدأ بالجماعة الصغرى وهي الأسرة. ويلحظ د. الترابي شدة اهتمام الدين والقرآن بالأسرة . وهو اهتمام ليس له نظير في فلسفات التربية ولا في الشرائع الدينية الأخرى . فالأسرة إنما تؤسس ابتداء على تعارف وتشاور وتراضي بين طرفين وزوجين يتعاقدان على إنشاء تلكم الأسرة الصغيرة. ونظام الأسرة ونظام القوامة فيها قائم على (عقد قوامة الرضا لا الجبر ويترتب على كل فرد في الأسرة زوج وزوجة وابناء واجبات وتنشأ له حقوق لا يسمح الدين لزوج أو أب ان يصادرها أو ان يستبد بأمرها). وكما اجتمعت الأسرة على التراضي تتفرق على التراضي ان لم تلتئم على الألفة والمحبة فإن (حدث طلاق يلزم تدبير الأثار ورعاية مصائر الأولاد بالشورى ، فإن ارادا فصالاً عن تراضي منهما وتشاور فلا جناح عليهما) وكما لا يسمح بنشوز الزوجة لا يسمح بنشوز الزوج . والنشوز هو الخروج على عقد التراضي (وان امراة خافت من بعلها نشوزاً أو أعراضاً فلا جناح عليها ان يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير ) فالأسرة إنما يُستدام اجتماعها وترابطها بالتراضي والتشاور فيتعلم الفرد الناشيء فيها ان لا قوام لحياة الجماعة إلا بالتراضي والتشاور. فهم يتعلم من حياته في جماعته الصغيرة ذلك ، كما يتعلم ذلك من جماعات الشعائر (فصلاة الفرد تنسلك تلقائياً في صلاة الجماعة الذين يقومون بنظام مشترك موزون يقدمون اماماً يتراضون عليه فلا يؤم الناس امام وهم له كارهون ، ومن أمهم أمهم على نهج مقرر حتى إذا زل عنه كان للمصلين المأمومين ان يذكروه فيقوموه ولهم عليه ان يصلى بهم مراعياً من التواضع والرفق ما يراعى مثله من يسوس حكومة الناس.)
ومثلما تقوم الشعائر والمعاملات الاجتماعية على التراضي والتشاور والتشارك بمعروف تقوم كل المعاملات الاقتصادية والمالية على ذلك . فهي كلها أما مشاركات او مضاربات او مساقاة او مزارعة أو عقود استصناع أو مقاولات فكلها تقوم على فكرة التفاعل . والعقود لا تقوم إلا على التشاور أولاً ثم التراضي على ما ينعقد عليه الاختيار الحر. وإذا كانت حركة التجارة والاقتصاد قائمة على التشاور والتراضي ، فإن حركة العلم والتعليم والتربية قائمة على التفاعل و التشاور. وليس لها من سبيل إلا التفاعل الحر بين العلماء وأهل الفكر والرأي . يقول د. الترابي (وان الفقه عندما نشأ لم يكن مثل فقهنا الفردي الحاضر بل كان فقهاً جماعياً فمالك بن أنس رضي الله عنه – مثلاً – لم يكن يعبر عن رأيه بل عن اجماع الحركة الفقهية في المدينة وتقاليدها ففقهه كان فقهاً شورياً. وابو حنيفة النعمان رضي الله عنه كذلك لم يكن يفتى من ذات رأسه وإنما كان يجلس ومعه أركان مدرسته ومنهم أبو يوسف وزفر ومحمد وكان يجري بينهم الحوار ويبرز الرأي من خلاله فما كان الفقيه يعتزل بتفكيره ورأيه بل يجمعه إلى آراء الناس وما كان الأمام الفقهي يستبد بالفتوى ويحتكرها).
والشورى وإن كانت تعم البلوى بافتقادها في السياسة والشأن العام للناس ، فإنها في حقيقتها خلق ركين فى حياة في الجماعة وهى تفاعل خلاق يجعل الفرد قوة للجماعة ويجعل الجماعة عضداً للفرد. وجوهر الشورى في السياسة هي إن ملاك الأرض والأمر للناس وليس لفرعون مستبد يحدث الناس فيقول (اليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) أو يقول ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فهو يريد ان يحتكر المُكنة في الأرض ويريد ان يحتكر الفكرة من دون الناس . ولكن شأن أمة المؤمنين ان (أمرهم شورى بينهم) فالأمر أمرهم لا يُقضى فيه إلا برضاهم والإ بتفاعل الرأي في ما بينهم . فرشاد الحكم لا يُنال إلا برد الأمر إلى أهله وبتفاعل الفكرة بالفكرة والرأي بالرأي .
الشورى أساس الديمقراطية
ودكتور الترابي لا يتحرج من إستخدام مفردة ديمقراطية لوصف حال التراضي والمشاركة والتداول السلمي للسلطة ، رغم أنه يعلم ان (كلمة الديمقراطية اليوم يصاحبها في خاطر السامع جملة من المعاني تتصل بالصورة والقيم التي لازمتها عبر الأطوار التاريخية . وهكذا علق بها شيء من كل الظروف البيئية والمصاحبات الفلسفية والأخلاقية والمادية التي صاحبت تطبيقها ا لواقعي . فالمتحدث عن الديمقراطية لا يجردها لتقتصر على معناها في معجم اللغة بل يستصحب كل هذه المعانى أو ما شاء منها. وعندما تعبر هذه الكلمة من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى يمكن ان تعني شيئاً مبايناً للمعهود فيها).
وكما تقلبت الديمقراطية في البيئات التاريخية الثقافية منذ ان كانت مذمومة في بعض مراحل التاريخ الهيليني إلى كونها ممجدة في أطوار الغرب الحالية ، ومن كونها حكم الدهماء قدماً إلى كونها حكم الشعب الرشيد حالياً ، فهي لا تزال تتقلب في البيئات الثقافية شرقاً وغرباً في أوربا . وكذلك بين المشرق والمغرب وبين الجنوب والشمال ، لكن أخيراً استطاع بعض أهل الفكر في السياسة أن يستلوا من تجاربها المتعددة ما أسموه بالحكم الراشد ، وهو ما قالوا أنه لباب الفكرة الديمقراطية. ولئن كان ذلك كذلك فعلى الأمة المسلمة أن تأخذ هذا اللباب الديمقراطي فترده إلى أصولها الفكرية . وكذلك ترده إلى تجربتها التاريخية وإلى المعاني الأصولية في دينها ، ومن هذه المعاني الأصولية الكبرى فكرة الشورى التي يقوم بها كل شأن الجماعات صغرت أم كبرت على التشاور والتراضي والتعاقد الحر، وتكره الاستبداد والفساد في الأرض (تلك الدار الأخرى نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً ) صدق الله العظيم
نواصل ،،،
د. أمين حسن عمر
كلام فارغ من شخص فارغ عن شخص فارغ .