أبشر الماحي الصائم

داخل حافلة كنا


من أراد أن يقرأ أنفاس الجماهير على سجيتها، ويأخذ لقطات حية لمشهد فطري صادق لا يتجمل ولا يتلون، فليتخذ من زاوية (مواصلات حادة) أو ذات انفراجة مكاناً لالتقاط تلك المشاهد، بالأمس كنت أستقل حافلة مواصلات عامة (هايص) كما يطلق عليها صديقنا الغبشاوي، في رحلة من وسط الخرطوم إلى شرق النيل، وأقول من (زاوية حادة) كون التذكرة التي تم تحصيلها هي خمسة آلاف جنيه للراكب الواحد، وهذه وحدها مادة غنية وفرصة لكي يتنفس الركاب ويخرجون بعض الهواء الساخن من صدورهم.
* غير أن الموضوع الذي هو أكثر كلفة من ثمن التذكرة هو ما أثاره أحد الركاب، لما سأل صاحب الحافلة في ثنايا الحوار.. (الأخو من وين أنت) ومن ثم دخلنا في معترك هو الآخر باهظ الأثمان بطبيعة الحال لن أقدم على تكرار تفاصيل ذلك النقاش الجهوي المؤلم، على الأقل حتى لا أخرجه من ضيق حافلة حمولة خمسة عشر راكبا، إلى سعة هذه الميديا التي بلغت ما بلغ الليل والنهار.
* انتهت تلك الرحلة المضنية وبدأت في خاطري رحلة أكثر فزعا بل ورعبا، إن لم نستيقظ وتتداركنا عناية الله سبحانه وتعالى ، إن كان بعضنا بالفعل ينحدر إلى ذلك الدرك من الحديث الجهوي البغيض.. على أن الحالة الاقتصادية على مرارتها وبؤسها يمكن التغلب عليها ودفع ثمن مغالاتها الباهظة، غير أن الذي لا يمكن دفع قيمته هو أن يرتد السودانيون في قمة مجتمعهم الحضري، إلى جذور ولاياتهم التي لم يولدوا ولم يترعرعوا في ربوعها.
* بدا أن عامل انهيار كياناتنا الفكرية والحزبية وتقزمها كان له كبير الأثر في ارتداد بعضنا القهقرى إلى ثقافة (القطيع).. ليس هناك أكبر قطيعة لوصل التنمية والحضارة والتقدم من الاحتماء بالجهة عوضا عن الفكرة.
* ربما يستدرك الآن فقط الذين أجهزوا على الأحزاب الطائفية دونما تقديم بدائل مقنعة، كم أخطأوا في حق الدولة السودانية، فالطائفية على علاتها كانت جامعة للأمة السودانية في الجهات الأربع.. لأن الأسوأ من الانتماء للطائفة هو الاكنفاء بالانتماء والاحتماء بالقبيلة.
* أنا من هنا من داخل الحافلة (الهايصة) أدق ناقوس الخطر، بأن عملاً جباراً حكيماً قيماً ينتظر المخلصين من أبناء هذا الوطن، لتفويت الفرصة على الذين يودون تمزيق البلاد من هذه البوابة الخربة يحتاج نسيجنا الاجتماعي وكياننا الجهوي إلى المزيد من عمليات التسديد والمقاربة، حتى يتجاوز دعوات أصحاب (كناتبن التجزئة الجهوية)، وذلك بالالتفاف حول أطروحة مصطلح (السوداناوية الجميلة).. ومن ثم لنعتصم بالإسلام.. أبي الإسلام وأمي أن افتخروا بقيس أو تميم.
* أحد الدعاة كان يقول لي لا أطرب ولا أتفاعل مع أي دعوة تأتيني من (نادي أبناء..) بالخرطوم!! ولكني أطرب أيما طرب عندما تأتيني الدعوة لإقامة محاضرة، من مربع سبعة بالصحافة أو الشجرة أو الردمية.. لأني ساعتئذ سأجد أمامي سودانا مصغرا.
* صحيح أن هناك (كتلة ضخمة من الوعي الوطني) ترسخت عبر التاريخ والأجيال، لن ولم يكن بمقدور هؤلاء اختراقها، بيد أنها تحتاج لتنشيط مناعة آلياتها الثقافية والفكرية الوطنية لمقابلة أي ردة محتملة.. والله خير حافظا ومعينا.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.