جيل منقطع .. ! (2-2)
{إذا كان هذا الجيل الذي يدرس في المدارس الأجنبية والجامعات الخاصة وبعض الحكومية، منقطعاً عن مجتمعه وبيئته لأسباب مختلفة، فصلنا بعضها في مقال الأمس، فإن بلادنا موعودة بمستقبل أسوأ، فكيف يستقيم الطريق إلى النهضة والرفاهية والاستقرار، وقادة المستقبل بلا (هوية)، بلا رابط يجمعهم بفكرة وقضية ومشروعات إلى هذا الوطن .
{في الماضي، كان موظفو الخدمة المدنية في بلادنا ينتقلون في كافة أقاليم السودان، وهم في مدخل الخدمة في عمر العشرينيات، وقد ساهم ذلك في توثيق ارتباطهم بالبلد، وتعميق ثقافاتهم عن تراثه، وعادات وتقاليد شعبه في كل منطقة من كافة القبائل والعشائر، السحنات .. الألوان والملامح .
{كما صقلت فترات العمل الحكومي بالأطراف والأصقاع النائية تجارب صغار الموظفين وقوت أعوادهم وشحذت هممهم، ودربتهم على العيش الخشن في كافة المناخات والظروف .
{تخيلوا أنني أول ما بدأت استوعب ما حولي وأنا طفل، وجدت نفسي مع والدي ووالدتي في مدينة “بابنوسة” أقصى غرب كردفان، وليس في قلب “أم درمان” مسقط رأسي .
{وبعد عامين انتقلنا إلى “كوستي”، ثم عدنا إلى “الخرطوم”، وبعد سنوات عشنا في الريف الجنوبي لأم درمان، وسط مشروع الجموعية الزراعي، بين الحواشات و(الترع) وحقول البرسيم والطماطم والبامية تمتد إلى حد البصر، وكانت جيوش (البعوض) تحاصرنا ليلاً من كل ترعة أو “أبو عشرين” مكسور، فنعاني كل أسبوعين وثلاثة من داء الملاريا اللعين، فنخضع مستسلمين لحقن “الكلوروكوين”، وما كانت تخلو أجسادنا من طعنة حقنة، أو وخز (درب) !
{وبمثلما تعلم آباؤنا الكثير في خضم كل تلك التجارب المهنية والحياتية الثرة، تعلمنا نحن أيضاً وتفتحت أبصارنا وبصائرنا على ما لم يكن متاحاً في الخرطوم .
{أما الجيل الحالي فأطباؤه ومهندسوه ومعلموه وحتى زراعيوه، يريدون أن يبقوا هنا في الخرطوم، وإلا فالهجرة إلى السعودية والإمارات وبعض دول الاتحاد الأوروبي !!
{من يعمر هذه البلاد إذن ؟! من يصنع النهضة في مشروع الجزيرة والشمالية ودارفور وكردفان والبحر الأحمر والنيل الأبيض ؟!
{جيل منقطع عن بلده وأهله، وهائم على وجهه في (الفيس) و(الواتس) !!
{من يصلح هذا الحال الكارثي؟! الدولة الغارقة في أزماتها السياسية والاقتصادية، أم المجتمع (الوحلان) في توفير سبل المعيشة وبناء البيوت، وسداد رسوم المدارس الأجنبية التي هي ذاتها التي تقطع الأبناء عن البلد والناس والدين!!
{هل تعي وزارتا التعليم العام والعالي أن المسؤولين عنهما يساءلون يوم لا مجلس وزراء، عن ضياع أجيال السودان وانصرافهم عن وطنهم ومجتمعاتهم وقضايا شعبهم ؟!!