الطيب مصطفى

ونحن قبيل شن قلنا؟ !

أخيراً وبعد أطول حرب في التاريخ الحديث انفصل الجنوب عن الشمال برغبة أهله كلهم ..انفصل وأخذ بعض قصار النظر من نخب الشمال ينتحبون ويلطمون الخدود ويشقون الجيوب حزناً عليه بالرغم من أن السودان لم يجن منه غير الخراب والدمار والبوار والتخلف لكنها الغفلة التي أفرزتها تلك العاطفة المجنونة بفعل أبيات شعر غاوية وهائمة رسخت في وجدان كثير من الناس وظلوا يرددونها كالببغاوات التي تهرف بما لا تعرف .. يقول أحد تلك الأبيات التي مارست إرهاباً فكرياً على كل من يخرج على سلطانها الممتد زوراً عبر الأجيال:

(منقو قل لا عاش من يفصلنا)

خرجنا بل ثرنا على كابوس الوحدة الذي ظل مسيطراً على عاطفتنا المخدرة لعقود من الزمان بدون أن نفكر في إخضاعه للنظر العقلي العميق وتحملنا في سبيل رؤيتنا الجديدة وابلا من الهجوم الضاري شنّه علينا أسرى العادة وسجناء التقليد الذين تشبهوا بمشركي قريش ممن رفضوا الحق المبين وطفقوا يبحثون عن مبررات يواجهون بها قوة الحجة التي امتطاها الدين الجديد مرددين في استسلام بائس لسلطان العادة وروح القطيع : (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) .. أي وجدنا آباءنا على دين الشرك ولن نخرج على ما وجدنا عليه آباءنا.

مرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ أن خرجنا برؤيتنا الجديدة التي طالبنا فيها بانفصال الشمال عن الجنوب واستعصمنا بمبادئنا التي أخذ الناس يلتفون حولها حين اكتشفوا خدعة (الملك العريان) التي أنبنت عليها أكذوبة الوحدة القائمة على بيت العنكبوت وتبين لهم خطل بنائها المهترئ ورأوا عريها وعوارها الأمر الذي جعل الناس حين وقع الانفصال يتقبلونه بارتياح كبير وكأنهم تنفسوا الصعداء بعد اختناق طال أمده دهراً.

كلما توقعناه من حروب تفتك بدولة الجنوب اليوم حدث بالتفاصيل الدقيقة وكأننا كنا نرى بعين الغيب وها هي الذكرى الخامسة لانفصال الجنوب الكذوب تمر على الدولة الجديدة وهي تتلظى بنيران حرب طاحنة تدور رحاها بين مكوناتها القبلية والإثنية المتناحرة أو قل بين رئيسه ونائبه الأول وقبيلتيهما المتباغضتين الدينكا والنوير بل بين الدينكا وكل الجنوب بقبائله المختلفة.

خمس سنوات ظل الجنوب خلالها يتقلب في السعير وأدرك الجنوبيون الآن كيف كان الشمال المغلوب على أمره خلال سني تلك الوحدة الملعونة صابراً على أذاها متجرعاً لأوائها نازفاً دم قلبه في سبيل استرضاء الجنوبيين باذلا كل مرتخص وغال من أجل استبقائهم في حضنه الرؤوم ولكن!

تردى الجنوب إلى مستنقع الفشل ومات الحلم المستحيل الذي لطالما راود نخبه ومثقفوه بأنهم مقبلون على النعيم المقيم في دولتهم الوليدة بل تمددت أحلام أولئك الحمقى وتطاولت حتى توهموا أن بمقدرهم أن (يحرروا) السودان من أهله الذين ظلوا يبغضونهم حتى بعد أن (فرزوا عيشتهم) منهم لدرجة أن يسوقهم الغرور والتطاول إلى أن يحتفظوا بالاسم (العدواني) لحركتهم العنصرية البغيضة التي أطلقوا عليها تلك العبارة المستفزة للسودان والسودانيين : الحركة الشعبية (لتحرير السودان) فأي سودان ذلك الذي يطمعون في تحريره بعد أن غادروه لينشؤوا دولتهم بعيدا عنه؟!

قبل قليل وأنا أسطر كلمات هذا المقال ورد خبر منسوب إلى رياك مشار قال فيه : (طائرات هيلكوبتر تابعة للرئاسة هاجمت قواتي وأن سلفاكير لا يرغب في السلام)!

يا سبحان الله ! رياك مشار النائب الأول لرئيس دولة الجنوب يقول ذلك عن طائرات تابعة للرئاسة بالرغم من أنه الرجل الثاني في دولة الجنوب!

مئات الآلاف قتلوا منذ اندلاع المعارك بين قوات الرئيس ونائبه الأول في ديسمبر 2013 وملايين شردوا ونزحوا إلى السودان وغيره من دول الجوار بينما الجوع يفتك بالجنوب والاقتصاد يلفظ أنفاسه الأخيرة والدولة على شفا الانهيار والمعارك محتدمة حتى اللحظة وأمريكا تعض أصابع الندم وكذلك بريطانيا.

قالها حكيم الحنوب لادو لوليك من قديم حين حذر من انفصال الجنوب عن الشمال خوفاً على بلده وشعبه مما يحدث الآن فقد قال إن الشمال بالنسبة للجنوب يشبه (النشارة) التي توضع بين أكواب الزجاج فإذا أزيحت تحطم الزجاج بما يعني أن العداء للشمال هو الذي يوحد الجنوبيين فإذا خرج الشمال من بين الجنوبيين احتدمت الحروب بينهم وظللنا نردد هذه المقولة في مقالاتنا وننصح بوقف المحرقة التي كانت ستستمر ربما إلى الأبد ما لم يفصل الشمال عن الجنوب.

مؤامرة كبرى تلك التي دبرتها بريطانيا للسودان من خلال زرعها للجنوب في خاصرة الشمال بدون رغبة شعبي الجنوب والشمال فمن يحاسب بريطانيا على ما اقترفت من جرائم في السودان وفي العالم أجمع؟

لسنا شامتين ونتأذى بالحريق الجنوبي وكما قلنا مراراً فان الضجيج في بيت جارك يحرمك من النوم ولذلك فإننا نحرص على استقرار دولة الجنوب وكل الجيران ولكن الأمر أكبر من الأماني والأحلام.

‫4 تعليقات

  1. وأمريكا تعض أصابع الندم وكذلك بريطانيا. >>>>

    جانبك الصواب في ذلك … ذلك هو احد سيناريوهات السودان الجديد …

    وذلك بتهجير كل الجنوبيين الى مدن السودان المختلفة .. ووضع الجنوب تحت وصاية الامم المتحدة .. .. وبتحميل تلك المدن عبئا اضافيا لما ترزح تحته اصلا من شح واعباء في البنى التحتية والموارد والسكن والمواصلات وغيرها .. ياتى الاحتكاك بين الاثنين وتبدأ الفوضى التى تحيل كل شئ في نهاية الامر ركاما ..

    وهو سيناريو جديد لمن تقول انهم يعضون اصابع الندم .. هم يبدون التعاطف والتاثر بالوضع وحال الاطفال ومعاناتهم في تلك النزاعات جهرا … والحقيقة انهم يستلذون بما يجرى سرا ..

  2. التحية لك على المقال الرائع
    لم يبكي على إنفصال الجنوب غير آل عرمان وآل منصور خالد وأبناء عمومتهم من الشيوعيين

  3. الجنوب كان ظاهره الوحدة….
    و هو يحارب الشمال…
    إلا ان حقيقته ظهرت كاملة عقب الانفصال…..
    بعد ان اختلى بعضهم ببعض….
    و كذلك نحن…
    متفرقون …
    و اشلاء….
    و الدليل هذه الحروب ….
    التي لا تنتهي….
    الفرق….
    انهم سبقونا للضياع…
    لكن نحن ايضا في الطريق….