بين انفصال الجنوب ودموع الدقير
إذا كنتُ قد أثبت في مقال سابق خطل زعم الأخ عمر الدقير أن الجنوبيين طوال الفترة التي اشتعلت فيها مشكلة الجنوب لم يكونوا يصدرون عن عداء وحقد على الشماليين من خلال إيرادي بعض الأمثلة لوقائع تاريخية مركوزة في ذاكرة الشعب السوداني مثل تمرد توريت (1955) وأحداث الأحد الدامي في الخرطوم (1964) وأحداث الإثنين الأسود في الخرطوم (2005)، فإن تلك الوقائع لا تعدو أن تكون قطرة في بحر الأحقاد المتلاطم الأمواج في نفوس الجنوبيين.
كنت قد وقفتُ في آخر المقال الأخير على ما حدث في يوم الإثنين الأسود الذي ـ ويا للعجب ـ يشبه غضبة الجنوبيين في أحداث الأحد الدامي قبل نحو أربعين عاماً .. ذات الأسباب تكررت بالكربون .. تخوين كل الشماليين وتجريمهم واتهامهم بأنهم أصابوا كليمنت أمبورو بسوء لمجرد أن طائرته لم تصل في موعدها.
في أحداث الإثنين الأسود سقطت طائرة قرنق في جنوب السودان وليس في الشمال بعد أن كانت قد أقلعت من العاصمة اليوغندية كمبالا بل إن الطائرة كانت يوغندية وليست سودانية ورغم ذلك اشتعل الحقد الجنوبي الذي لا يرى في المندكورو إلا شيطاناً مريداً فما من جريمة تحدث في الكون إلا وخلفها شمالي بل كل الشماليين لا فرق بين حكومة يفترض أن يتجه إليها الاتهام بالتآمر لإسقاط الطائرة أو شعب كامل فكلهم في نظر أبناء الجنوب مجرمون قتلة!
ما إن سرى خبر مصرع قرنق حتى تحرك الحقد المعتمل في النفوس فخرج الجنوبيون إلى الشوارع وأخذوا يفعلون الأفاعيل قتلاً وحرقاً وتدميراً لكل شيء .. الأسواق والمتاجر وطلمبات الوقود وكل شيء تقع عليه أعينهم المتربصة .. احتلوا الخرطوم بعواصمها الثلاث واستباحوها كل اليوم في غفلة أو عجز لا أدري سبباً له حتى اليوم.
ارتجت العاصمة وشعر الشماليون بهول الفاجعة .. ذات الشعور الذي انتابهم يوم الأحد الدامي قبل أربعين عاماً أن كرامتهم قد أُهدرت ورجولتهم قد استفزت فجاء رد الفعل حاسماً في اليوم التالي الذي سميناه بيوم الثلاثاء المجيد ولا أزيد.
أريد من الأخ عمر الذي دافع عن الجنوبيين على غرار كثير من النخب التي ظلت ترفض ما تشاهده أعينها من مشهد الملك العريان بعد أن أعمتها سياسة دفن الرؤوس في الرمال وعدم مواجهة الحقيقة المرة جراء تخدير طويل تعرضوا له بسبب خوف الساسة من اتخاذ القرار الصحيح وبشعر الغواة الهائمين في متاهات العواطف المجنونة الساهية اللاهية عن الصدع بالحق المبين.
ليت عمر عقد المقارنة بين طائرة قرنق وطائرة الشهيد الزبير محمد صالح ورفاقه الميامين وقد سقطت في جنوب السودان حيث الحرب التي يشنها التمرد الجنوبي اللعين .. كان كل شيء يشي بأن الطائرة قد أسقطت من قبل المتمردين، لكن هل فكر شمالي واحد في أن يثأر من فرد واحد من ملايين الجنوبيين الذين نزحوا إليهم في الشمال هرباً من الحرب التي يشنها زعيمهم المتمرد؟!
كانوا يعملون في بيوت الشماليين وفي شركاتهم ومؤسساتهم ولكن لا أحد دار بخلده أنهم مسؤولون عما حدث لطائرة الزبير ولغيرها ولعشرات الآلاف الذين قضوا في حربهم المجنونة.
شتان شتان يا صديقي بين مشاعر أبناء الشمال ومشاعر مبغضيهم الذين اعترف حكيمهم لادو لوليك بأن العداء للشمال والشماليين هو ما يوحدهم ودفع بنصيحته الغالية إلى الساسة والنخب الجنوبية: إن الشمالي بالنسبة للجنوبيين مثل (النشارة) بين أكواب الزجاج فإذا أزيحت (النشارة) كسرت أكواب الزجاج بعضها بعضاً.
زالت (النشارة) والحمد لله، وتوقفت الحرب بين الشمال والجنوب ولن تعود بإذن الله، لكن طيف لادو لوليك أطل من بين صفحات التاريخ وهو يشهد مأساة الزجاج الجنوبي الذي أخذ يحطم بعضه بعضاً بصورة لم تشهدها أي من فترات الحرب المدمرة بين شعبي الشمال والجنوب.
لقد تمت شيطنة (المندكورو) أخي عمر منذ دخول المستعمر الإنجليزي إلى السودان، فقد كشف سر الختم الخليفة عند زيارته إلى الجنوب على رأس وفد من وزارة التربية في أول حكومة وطنية تحت الحاكم العام البريطاني قبل خروج الإنجليز من السودان .. كشف النقاب عما كانت المدارس التبشيرية تدرسه لأبناء الجنوب فقد وجد أن الغلاف كان يحمل صورة جنوبي عريان يُضرب بالسوط من قبل شمالي يلبس الجلابية والعمامة!.. ذلك ما كانت تغرسه المدارس التبشيرية في نفوس أبناء الحنوب بل إن سياسة المناطق المقفولة التي فرضها المستعمر الإنجليزي للفصل الاجتماعي بين الشمال والجنوب قد فعلت فعلها وأكملت حلقات مسلسل شيطنة الشمالي في نفوس الجنوبيين وزرعت ذلك الحقد الدفين الذي تنوء بحمله الجبال الراسيات.
مع اني لا احبك يا الطيب بس موضوعك اليوم جدير بالبحث