مِهن ومِحن (13)
لا يخلو وجه من أوجه الحياة من «امتحان»، وبالتالي لا تخلو مهنة أو حرفة من مِحنة (بكسر الميم وتسكين الحاء)، على من يمارسها أو من يتعامل مع من يمارسها، والمحنة من «الامتحان»، وقد حاولت في مقالات سابقة في هذه السلسة تناول عناصر المحنة في مهنة الطب، وأتوقف عند هذه المهنة مجددا لأنها تمس حياة كل إنسان، ولكنني اليوم بصدد «التعاطف» مع ممارسي الطب، رغم أنني قلت في بعضهم ما لم يقله فشار الأسد في معارضي حكم عائلته في سوريا، ومنشأ هذا التعاطف أنني أدرك كم هي مهنة صعبة أن تحاول تخفيف آلام الناس والسعي لمساعدتهم على الإفلات من الموت أو الإعاقة، فنحن عامة الناس نتوقع من الطبيب أن يستمع إلى شكاوانا ثم يضع يده في موطن العلة، ويحدد لنا المسار المؤدي إلى الشفاء الكامل: يا دكتور أحس بدوخة.. ورأسي كأنه فاضي.. وبطني ما أدري حالتها مو طبيعية.
وليس غريبا أن يحس الإنسان بأعراض أمراض تستعصي على الشرح، وبالتالي ليس غريبا أن يستعصي تشخيصها على الطبيب فيلجأ إلى سلاح الفحص الشامل: البول والدم والفسحة (من أين جاءت هذه الكلمة؟)، وفي حالة كهذه قد لا يقوم بتوصيف أي دواء للمريض، ومعظم المرضى يضيقون من انتظار نتائج الفحوصات المخبرية أو الإشعاعية، ويتوقعون من الطبيب أن يجد حلولا فورية أو مؤقتة لمشاكلهم الصحية، ولهذا قد يلجأ المريض أبو دوخة ورأس فاضي إلى طبيب آخر، على أمل أن يجد عنده الدواء الناجع دون الحاجة إلى مختبرات، فإذا مضى الطبيب الثاني في نفس مسار زميله الأول ولم يصف دواء للمريض في انتظار نتائج «التحاليل»، فمن المتوقع أن تسمع منه كلاما من نوع: دكاترة آخر الزمن هاذول ما يفهمون شي.. يرمون الحِمل على المختبرات، وما يعطون المريض وجه. وكم من طبيب تعرض للشتم أو حتى الضرب؛ لأنه لم يأت بالعلاج الشافي الفوري، وقلبي على نحو خاص مع أطباء أقسام الحوادث والطوارئ فقد يأتون إليه بشخص في غيبوبة كاملة، إما بسبب حادث أو مرض مفاجئ أو مزمن، فيكون حاله كحال الشرطي الذي ينظر في أمر متهم بجريمة في غياب أي دليل محسوس، فيلجأ إلى الفحص السريري ثم يستعين بالمختبر وأقسام التصوير وتخطيط القلب والأعصاب، ويكون مرافقو المريض على «أعصابهم»، ويلاحقونه بالأسئلة: خير.. وش الحاصل؟
وما يجعل بعض الأطباء عاجزين عن تشخيص حتى الحالات المرضية البسيطة هو الإرهاق، ففي كثير من الحالات لا يوجد دوام محدد للطبيب، لأنه لا يستطيع أن ينظر إلى الساعة ثم يخلع «السماعة» ويقول للمرضى: الدوام انتهى، تعالوا باكر.. أوووه باكر الجمعة.. تعالوا الأحد!! ففي العيادات الخارجية مثلا- على الطبيب أن يستقبل عددا معينا من الحالات، و«يأكل هوا» إذا كان لديه مريض أو أكثر من النوع الثرثار أو اللحوح اللجوج، فبعد أن يشرح حالته ويطمئنه الطبيب بأنه يعاني فقط من التهاب في القولون يصيح معترضا: لا يا دكتور.. فيني «زايدة» او فشل كلوي، ومثل هذا المريض يستهلك قسما من الوقت الذي ينبغي ان يخصص لغيره من المرضى، ويستهلك قسما كبيرا من رصيد الطبيب من «الصبر».. وأذكر جيدا يوم خرج مريض من غرفة طبيب في مستشفى وهو يصيح فينا نحن من كنا في غرفة الانتظار: روحوا بيوتكم أحسن لكم.. هذا الدكتور أخذ مني كيلو دم ويقول ما فيني شي.. أكيد باع دمي وللا صدّره للخارج.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]
(حاولت في مقالات سابقة في هذه السلسة ) اعتقد ان الصحيح هو : في هذه السلسله ) لذا وجب التنويه , والله أعلم .