تحقيقات وتقارير

البطالة .. هاجس دائم

أضحت ظاهرة البطالة بأنواعها كافة تشكل هاجساً وتحدياً حقيقياً لجميع دول العالم بما في ذلك الدول الاكثر تقدماً، ونجد ان الظاهرة بمفهومها الواسع والعريض، لم تكن وليدة العصر الحالى، ولكنها متجذرة وضاربة في القدم، وتؤكد دراسات حديثة منشورة على مواقع الانترنت المختلفة ان البطالة ترجع الى العصور الوسطى، وكانت منتشرة بكثرة وسط الحاشية والخدم في عهد الممالك الوسطى، بل ان الدراسة ذهبت الى ابعد من ذلك، واشارت الى ان بعض الملوك والرؤساء في ذلك العصر عانوا من البطالة، مشيرة الى ان الملك عقب طرده من القصر يستولى خلفه الجديد على ممتلكاته كافة، وبالتالى يصبح الملك المطرود والمخلوع، اما عائشاً على مرتبه الضئيل الذى يتحصل عليه من القصر نتيجة خدماته السابقة، أو يتسول في الشوارع كبقية المواطنين. وعرفت البطالة طريقها الى السودان خاصة في اوساط خريجي الجامعات نهاية ستينيات القرن الماضي فيما عرف ببند العطالة، ورغم انه تم تخصيص ميزانية مقدرة من الميزانية الاحتياطية للدولة لاستيعاب الخريجين، لجهة الحد من تخفيف آثار البطالة، الا ان التجربة فشلت نتيجة حصرها على بعض الخريجين وعدم تعميمها على الجميع. الامر الذى افرز عطالة مقننة وسط خريجى الجامعات، لاتزال تعانى البلاد من افرازاتها حتى يومنا هذا، حيث تسبب عدم تشغيل الخريجين في بروز العديد من الجرائم الاقتصادية المنظمة، فضلا عن المشاكل الكثيرة التي ادخلوا فيها اسرهم، وتفاقمت ظاهرة البطالة في البلاد وسط الشباب والخريجين عقب التحول لمنهج الاقتصاد الحر(التحرير الاقتصادى)، بجانب سياسات إعادة الهيكلة والخصخصة وتوفيق الاوضاع التي انتهجتها الدولة في الفترة الاخيرة، وبالتالي ادت هذه السياسات الى زيادة نسبة البطالة، ونجد ان القطاع الخاص لم يسلم من تلك السياسات، حيث قادت الى تدهور اوضاع كثير من المؤسسات والوحدات، فضلا عن اغلاق العديد منها ابوابها، مما شكل عبئاً اجتماعياً جديداً بفقدان العديد من العاملين وظائفهم، اضافة الى ان الهجرات المتزايدة من الريف الى المدن، لاسيما الهجرة الى العاصمة انعكست على تمدد النشاط الخاص الذي يعرف بالاقتصاد غير الرسمي او النشاط الهامشي. كل هذه الامور مجتمعة دفعت لجنة الاختيار للخدمة المدنية القومية بالاشتراك مع جهاز الامن والمخابرات الوطني متمثلا في دائرة الامن الاقتصادي الى عقد سمنار حول البطالة بغية مناقشة القضية والعمل على ايجاد حلول لها مستقبلا.
وعزا كمال محمد احمد أبو آمنة الامين العام للجنة الاختيار للخدمة المدنية القومية في ورقته التي استعرضها في السمنار امس الاول اسباب تفشي البطالة، وحصرها في التحولات الكبيرة التي شهدها الاقتصاد العالمي، حيث بدأ يتجه نحو الجدارة العالمية والتكنولوجية المتقدمة، مما أدى ذلك الى خفض فرص العمل في كثير من الدول النامية وبالتالي تفاقم حجم البطالة فيها، بجانب ان المعونات الاجنبية التي تعتمد عليها الدول النامية في تمويل مشروعات التنمية الاقتصادية تراجعت بصورة كبيرة خلال العقود الاخيرة بسبب الضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية خاصة خلال فترة الحصار الاقتصادي، مع ارتفاع عبء الديون الخارجية، اضافة الى الهجرة الواسعة من الريف للحضر بسبب اتساع دائرة الحرب او الظواهر الطبيعية والاجتماعية كالجفاف والتصحر والفيضانات، فضلا عن ضعف البنيات التحتية والمؤسسية والخدمات الاجتماعية مما ادى لزيادة نمو القطاع غير الرسمي، واشار كمال الى ان من الاسباب ايضا عدم معرفة حاجة واتجاهات سوق العمل، وارجع ذلك الى غياب المسوحات الميدانية العلمية من حيث الكم والكيف، بجانب عدم التنسيق بين مؤسسات التعليم العام والعالي في جانب التنمية، واضاف ان تلك المؤسسات توسعت في التعليم العالى دون اجراء دراسات اقتصادية شاملة توضح حاجة سوق العمل للخريجين، وحول الاحصائيات والنسب الحقيقية لحجم البطالة في السودان، اكد ابو آمنة انهم لايستطيعون التحدث عن نسب واحصائيات دقيقة توضح حجم البطالة في السودان، وعزا ذلك لغياب الاحصائيات والبيانات والدراسات العلمية، فضلا عن عدم اجراء مسوحات لسوق العمل، بيد انه اشار الى تعداد 1993 الذي قدر نسبة البطالة بـ «11ر7%»، بجانب المسح الذى تم للقوى العاملة في 1996وقدر نسبة البطالة فى شمال السودان فقط بحوالى« 19% »،واوضح ابو آمنة ان البطالة تتركز فى سن«24 – 25» وسط الشباب عامة من الجنسين منها «55,9%» اناث و«44,1%» ذكور، مشيرا الى ان البطالة في الحضر بلغت نسبتها 51,9%، وذكر ان الشباب من خريجى الجامعات والذين يملكون مؤهلات جامعية في ذلك العام وصلت نسبة البطالة بينهم حوالى «59%» إناثاً و«41 » ذكوراً.
ويؤكد عبدالمحمود عثمان منصور الامين العام للمجلس التقني والفني ان مشكلة البطالة في السودان موجودة منذ بدايات التعليم في البلاد، وانها ليست وليدة عهد التعليم الحالى، وقال: ان التعليم لم تحصل له قفزة نوعية منذ خروج المستعمر من البلاد، وانتقد عثمان القائمين على امر التعليم في بداياته، وقال انهم لم يسعوا الى تطويره من خلال ايجاد قنوات لتلبية احتياجات التنمية، مؤكدا استمرار هذه النظرة حتى يومنا الحالي، وشكا عبدالمحمود من اهمال الدولة للتعليم الفني والتقني، وقال إنه الآن تلاشى تماماً، نتيجة التوسع في سياسة التعليم الاكاديمي على حساب التقني، مبينا الى ان ذلك ادى الى بروز ظاهرة الفاقد التربوي في التعليم التقني، مشيرا الى ان الطبيب في السابق كان يقابله (6) ممرضين ولكن الآن اصبح كل ممرض يقابله (6) اطباء، واوضح ان هذه النظرة غير السليمة للتعليم التقني ادت الى بروز احصائيات مزعجة في قضية التنمية، كاشفا عن عجز كبير في الوظائف التي تحتاج الى تقنيين، حيث بلغ العجز في المجال البيطري على المستوى التقني حوالى «99%»،والفنيين ايضا «99%» والعمال المهرة «100%»، وفي المجال الهندسى بلغ العجز في التقنيين «84%» والفنيين «98%» والعمال المهرة «98%»، وفي المجال الزراعي وصل العجز في التقنيين «98%» والعمال المهرة «99%»، مشيرا الى ان هذه الارقام العالية في التعليم التقني والفني تعطي مؤشرًا حقيقياً لتفاقم ظاهرة البطالة في السودان.
واتفق د. الفاتح احمد قرشى امين امانة العلاقات باتحاد اصحاب العمل مع عبدالمحمود في ان التعليم التقني والفنى لم يجدا الاهتمام والتقدير المطلوب من الدولة، مشيرا الى انه مضطهد من قبلها، وشكا قرشي من عدم وجود عدالة في جانب الاجور بالنسبة للعاملين في القطاع التقني، داعيا الدولة الى ضرورة اعادة النظر في سياسة الاجور، وانتقد قرشي ظاهرة انتشار العمالة الاجنبية في البلاد بصورة كبيرة وقال: إنها فاقمت من حجم العطالة وسط الشباب السوداني، مشيرا لوجود (400) الف عامل اجنبي في سوق العمل السوداني، في وقت يعاني فيه شبابنا من بطالة مقننة، ودعا الدولة الى ضرورة اعادة النظر في استجلاب العمالة الاجنبية.
وخرج المشاركون في السمنار بتوصيات عديدة لحل مشكلة البطالة في السودان، وقالوا إنه اذا تم اعتمادها وتطبيقها من قبل الجهات العليا ستسهم في ايجاد حل للقضية، من بينها ضرورة اجراء مسح شامل لسوق العمل بمكوناته في القطاعين العام والخاص كافة، وتحديد حاجة سوق العمل من الكوادر من حيث الكم والكيف، بجانب تفعيل دور القطاع الخاص بمكوناته التجارية والصناعية والزراعية، واعادة النظر في جلب العمالة الاجنبية للبلاد من حيث الكم والكيف، وترشيد سياسة التعليم العالى وذلك بعدم التوسع في الدراسات النظرية مع التركيز على الدراسات التطبيقية والتقنية، اضافة الى تشجيع العمل بالولايات عبر التحفيز ووضع الميزانيات التشجيعية لاستيعاب الخريجين.
عمار آدم :الراي العام