تحقيقات وتقارير

وزارة الصحة عازمة على إغلاق المطاعم غير المهيأة الإسهالات المائية.. “مطابخ” في دائرة الاتهام


خبير: لابد من وضع الحقائق أمام المواطنين ليتجنبوا كارثة الإسهالات المائية

مصدر طبي: لابد من عزل المناطق الموبوءة ورفع مستوى التوعية

مواطنون: الجهات الرسمية مهمومة بتحصيل الرسوم فقط ولا يهمها المواطن

ارتفاع معدلات الإصابة بالإسهالات المائية، في الولايات، مقروناً مع الهمس الذي يدور حول تسجيل حالات إصابة بالمرض في ولاية الخرطوم، جعل وزارة الصحة بولاية الخرطوم، تنزع عنها قناع التسامح أو قل الإهمال، لتلبس قناع الجدية، وذلك بعدما هددت بإغلاق المطاعم التي لا تتوفر فيها مطلوبات الصحة العامة. السؤال هنا “لماذا لم تتحرك الوزارة من قبل لإزالة تلك المطاعم المخلة بالشروط الصحية؟ ألم تكن على علم بها ؟ ألم تقع عيون مسؤولي الوزارة على الأطعمة التي تباع على الأرض وفي مواقف المواصلات محازية لمياه الصرف الصحي؟ والعجب العجاب أن بعضها الذي يعد للطهي في تلك المواقع عرضة للذباب والأتربة وسلوك العمال غير الصحي ويتم تناوله في ذات المواقع بشهية مفتوحة!

خطوة وزارة الصحة ستكون محاطة بكثير من الاستفهامات خاصة أنها ظلت تلاحق المطاعم الفخمة بالرقابة والعقوبات مع أنه يرتادها عدد قليل من الناس وتهمل المطاعم الشعبية وأطعمة الرصيف رغم كثرة متناوليها من أبناء الشعب الذين لا يبالون إن كانت أطعمتها صحية أم لا، وربما لم يقرأوا أخبار الإسهالات المائية المنتشرة، ولذلك هم أحق باهتمام وزارة الصحة برأي الكثيرين.

مسؤولية الدولة
حاجة “فاطمة” صاحبة المطعم الشعبي الذي يقصده التاجر والأستاذ في وسط الخرطوم والتي تجرعت المر صموداً امام تقلبات الاقتصاد وأتاوات المحليات حينما لفتنا نظرها للبيئة غير الصحية حول مطعمها هاجت في وجهنا ثم هدأت قليلاً لتصب جام غضبها على الحكومة قائلة: (دي ما مسؤوليتنا دي شغل ناس وزارة الصحة وناس صحة البيئة).

لم تشأ الخمسينية حاجة قسمة الخوض أكثر في الموضوع، واكتفت بلوم الجهات المعنية بصحة البيئة وهي تؤكد أن الخطأ ليس خطأ من يتجول بالأطعمة ويبيعها مكشوفة معرضة للتلوث بل خطأ الدولة التي تسجل حضورا كبيراً في تحصيل الرسوم والعوائد وتسجل غياباً دائماً فيما يختص بتحسين البيئة وحماية صحة الإنسان.

مطاعم شعبية تبيع المرض
تجولت (الصيحة) وسط بعض أسواق الخرطوم والأسواق الطرفية التي تكثر بها المطاعم الشعبية، للتأكد من مدى خطورة تلك المطاعم على صحة الإنسان خصوصًا مع انتشار الإسهالات المائية. وهناك تجاذبت الحديث مع شاب ثلاثيني، قال إن كل من يرتاد المطاعم الشعبية يعلم تماماً أن أغلبها لا تتوفر فيه الشروط التي وضعتها وزارة الصحة، ولكن ليس الحل في إغلاقها بل الأفضل للجهات المعنية أن تضع شروطاً وضوابط عالية للتحكم في الجانب الصحي وعدم منح رخص عمل إلا إذا توفرت كل شروط الأمان في الجانب الصحي، ولكن للأسف الشديد منح التراخيص مربوط فقط بالجانب المالي وليس باستيفاء شروط السلامة.

ووصف محدثي وزارة الصحة بأنها ليست فاعلة في عملية الرقابة على الأغذية وأن صحة البيئة تدهورت جداً بدليل أن كثيراً من المطاعم عبارة عن (رواكيب) يقصدها أصحاب الدخل المتوسط وهي تخلو من الجانب الصحي والبعض يجلس على تل من الأوساخ والذباب أثناء الأكل، وحتى بعض المطاعم الكبيرة داخل الخرطوم لا تخلو من بعض الإخفاقات الصحية، لذلك كثيراً ما يتعرض إنسان هذا البلد للأمراض التي تتحول بصورة سريعة لمرحلة الوباء.

مدارس تبيع الأمراض
يقول الزين حسن، وهو أربعيني يسكن مايو لـ(الصيحة) إن من أكبر أسباب انتشار الإسهالات المائية ليس تلك المطاعم الشعبية أو الباعة الجائلين فقط، بل هنالك مدارس بداخل الأحياء بالخرطوم تبيع الأمراض للطلاب وتنتقل العدوى بينهم انتقال النار في الهشيم، لأن أماكن الطعام لا تتوفر فيها أدنى شروط صحة البيئة والآن يوجد (التبش) و(المنقة بالشطة)، وبعض المأكولات الأخرى تباع لطلاب المدارس في العراء ويسكنها الذباب والتلوث، ومثل هذه الحالات توجد في المدارس الحكومية لعدم وجود الرقابة الصحية، وحتى إدارات المدارس في غفلة عن ما يحدث من غياب للجوانب الصحية، كذلك غياب المنهج الصحي بالمدارس، وأضاف حسن: (حتى الأسواق يباع فيها الوباء لأن الباعة الجائلين مهما تمت محاربتهم لن ينجح الأمر لأن وزاره الصحة لا تصل الى كافة الأسواق، ونلاحظ جيداً تركيزها على السوق العربي فقط، مع أن الأوبئة أكثر انتشاراً بالأحياء الشعبية وأسواقها، وكثير من الباعة الذين يعملون على بيع (المانجو بالشطة) متجولون حتى داخل الجامعات دون رقابة.

وعاب أيمن عمر وهو طالب جامعي، على وزارة الصحة ممثلة في إدارة الرقابة على الأغذية وكذلك وزارة البيئة أنهما تدفنان رأسيهما في الرمال، كما النعامة وزاد: (ربما رواتب الموظفين ضعيفة مما يجعلهم يتهاونون في أداء العمل، لذلك ينزل بضعهم لمستوى الرشوة التي تصل احياناً (لوجبة) فقط، أما المطاعم الكبيرة من طراز (الخمسة نجوم) فهي أيضًا تحتاج للرقابة لأنها تستخدم العمالة الأجنبية وليس لديها كروت صحية وإجراءاتها تتم بصورة شكلية، لذلك فهي ليست بمنأى عن المخالفات والاشتراطات الصحية، ولكن الفرق بينها والمطاعم الشعبية أنها تقام في أماكن راقية والأخرى في مناطق شعبية.

ونبه أيمن إلى أن المطاعم الكبرى حتى الأكل فيها مجهول، ناهيك عن صحة البيئة، وتساءل: (هل وزارة الصحة على علم بما يقدم داخل مطابخ المطاعم الكبرى)؟

حبر على ورق
أما الناشط الاجتماعي والموظف السابق بإدارة البيئة بمحلية الخرطوم خالد الدخيري فقد وصف الاشتراطات الصحية التي بسببها تغلق وزارة الصحة المطاعم الشعبية بأنها غير موجودة أساساً حتى في المطاعم الفخمة التي ترتادها شريحة معينة من السودانيين والأجانب، فالأمر حسب الدخيري لا يتعلق بالذباب فقط لأنه ليس وحده الناقل للأمراض، ولكن الخطورة في العمالة لأنهم لا يحملون الكروت الصحية، وليس لديهم شروط مواصفات ولا فحص طبي. وأضاف أن كثيرا من المطاعم التي تقع في بعض الأحياء الراقية لا يلبس فيها العامل غطاء على رأسه، ويعمل دون (قفازات) وبعضهم يتعاطى (السعوط) أثناء العمل (يعني الوزارة تركت الحمار ومسكت في البردعة)، لأنها غفلت عن المخالفات الصحية المجلوبة عبر العمالة الأجنبية، واتجهت نحو المطاعم الشعبية التي يرتادها أغلب الشعب السوداني.

ويرى خالد الدخيري أن التكتم على الحقائق من أكبر المعوقات لمعالجة أي مشكلة صحية مشددا على ضرورة توضيح المخاطر حتى يتداركها المواطن قبل المسوؤل. وأضاف الدخيري قائلاً: للأسف وزارة الصحة وإدارات صحة البيئة بالمحليات جزء أساسي من الأزمة لأنها لا تقوم بعملها على أكمل وجه، والآن الشوارع والأسواق تعج بالنفايات وكل ما يهمها الجبايات فقط.

وأشار الدخيري إلى أن الوزارة لم تستطع تطبيق الاشتراطات الصحية عبر المدارس بدليل وجود (فراشات) يعملن داخل أسوار المدرسة على بيع مأكولات ضارة أمام عيون الإدارة وهي من أكبر مسببات انتقال العدوى.

موقف مقزز
وتشير ابتهال ـ وهي ربة منزل ـ إلى أنها دلفت في إحدى المرات إلى أحد المطاعم الحديثة بشرق النيل لشراء وجبة، قالت إن الزمن لا يسعفها لإعدادها في المنزل لارتباطها ببرنامج مجتمعي. وأثناء دخولها إلى المطعم شاهدت أحد العمال يخرج من المطعم ويقوم بإصلاح رباط حذائه، ثم ما لبس أن عاد لمزاولة عمله دون أن يكلف نفسه غسل يده. تقول ابتهال “هنا قررت المغادرة بسرعة وتركت فكرة شراء الوجبة التي كنت بصددها”.

في الشارع
ماكينات الشاورما غالباً نجدها خارج الكافتريات إذ تعمد غالبية المحال التي تقدم الوجبات للمواطنين إلى وضعها في الأبواب بما يجعلها معرضة للأتربة والذباب لأن مساحة الكافتريا ضيقة، وهذا أكبر مهدد لأن كافة الشوارع غير مسفلتة ومن السهل جداً انتقال الجراثيم عبر الأتربة.

بلاستيك
وفيما يتعلق ببعض المطاعم الشعبية أو الباعة الجائلين فيرتدي بعضهم أكياس بلاستيك ظناً منهم أنهم يفعلون شيئاً صحياً وربما لا يعلمون أن البلاستيك يفرز ماده (الدياكسين) مع السخانة ويتسبب في السرطان.

رب البيت والدف
ويتساءل أصحاب مطاعم: (كيف يعاقب أصحاب المطاعم الشعبية بالإغلاق لمجرد وجود الذباب والوزارة نفسها لم تسع لمحاربته عبر إصحاح البيئة)؟

ويقترح مصدر في الحقل الصحي ـ فضل حجب اسمه ـ وحتى يتم تطبيق الاشتراطات الصحية التي تتحدث عنها وزارة الصحة، أن تقوم المؤسسات بعملها على أكمل وجه، فإذا صاحب المطعم الشعبي قام بتطبيقها وحارب الذباب وأتى ببقية الاشتراطات ووزارة الصحة لم تقم بالرش الضبابي للقضاء علة الذباب والبعوض فما الفائدة من تطبيقها على فرد وترك المؤسسة لعملها؟

ويرى المواطن على محمد من الصحافه أن الحملات التي تتحدث عنها وزارة الصحة ما هي إلا حديث إعلامي فقط بدليل مباشرة كافة المطاعم الشعبية عملها، وقال إن الحملات تتم فقط في وسط الخرطوم ولا تصل الى الأطراف, ويجزم بأن وزارة الصحة ليس لديها فرق استقصاء، وتقول إن بالعاصمة مراكز مجهزة للأوبئة.

لا توجد ثقافة صحية
مهتمون قالوا لـ(الصيحة) إن المسألة أكبر من حملة شعواء تعمل على إغلاق المطاعم أو على الباعة الجائلين لأن الأجهزة الإعلامية تبث ثقافة استخدام (المرحاض) وغسل اليدين بالصابون بعد وقبل الاستخدام، إذن المعضلة أكبر من حملات تنفذ لفترة محدودة.

هنا يقول المواطن محمد أبو الروس إن السوق المركزي الآن تباع فيه الخضروات على الأرض وأبواب الجزارات مشرعة أمام جيوش الذباب، وهناك من يعتقد أن الباعة الجائلين أفضل حالاً من (الفريشة) على الأرض والمخجل أنه رغم ذلك الحال، فإن المحليات تأخذ رسوما وجبايات على هذه المطاعم وعلى الباعة.

خطر التلوث
ويضع خبراء ومختصون في شأن الغذاء التلوث البيئي في خانة المتهمين الأوائل في تسبيل بعض الأمراض المستعصية والقاتلة. وهنا يشير مصدر طبي بوزارة الصحة بعدما اشترط علينا حجب اسمه لحساسية موقعه، إلى أن جرثومه المعدة تصنف من أكثر الأمراض عدوى وأخطرها مقارنة الإسهالات المائية والآن يتم تشخيصها بصورة خاطئة بالمعامل داخل السودان، وقال إن الاسهالات المائية الآن انتشرت بشكل أسرع نسبة لتلوث المياه، وهي الأكثر استخداماً بجانب عدم الرقابة على الأطعمة وهو ما فاقم الأزمة بجانب انعدام الوعي الصحي، وهو ما زاد من حجم الكارثة فضلاً عن انفتاح الحدود الذي سهل انتقال العدوى، لذلك نقول إن لأمر لا يتعلق فقط بتلك المطاعم الشعبية بل بالإنسان نفسه، لأنه بعيد كل البعد عن التثقيف الصحي. ومضى المصدر الطبي إلى المطالبة بضرورة إغلاق المناطق التي ينتشر بها الوباء.

قرار وشيك التنفيذ
وزارة الصحة ولاية الخرطوم تتمسك بإغلاق أماكن بيع الطعام حال عدم توفر أي شرط من الشروط المطلوبة، وشددت على أن الأطعمة والمأكولات الملوثة تؤدي إلى انتشار الإسهالات المائية، وتعهدت في الوقت ذاته بمواصلة عمليات الرش في الأسواق والزرائب لتقليل كثافة الذباب. وأشار مدير عام الوزارة بابكر محمد إلى ضرورة التزام الباعة بالأسواق بالاشتراطات الصحية لحماية ووقاية المواطن من الأمراض التي يمكن أن يسببها العرض السيئ، مطالباً بتفعيل الرقابة على الأطعمة والباعة الجائلين بالأسواق من عرض الخضروات والفاكهة على الأرض والإشراف المباشر على كافة المطاعم والكافتريات والاطمئنان على توفر كافة الاشتراطات الصحية في تلك المحال، داعياً المحليات لتفعيل السلطة المخولة لها بموجب قانون 2007 التي تفوق السلطة الممنوحة لوزارة الصحة، مشيراً إلى أن مسؤولية الصحة مسؤولية تشاركية وتحتاج إلى تضافر الجهود، مشددًا على ضرورة تكثيف التوعية الصحية للمواطنين وبث الرسائل الصحية لطلاب المدارس والتلاميذ في طابور الصباح وتوعيتهم. وطالب بابكر جميع المواطنين بتوخي الحيطة والحذر وعدم تناول الطعام والشراب في الأماكن الملوثة، مؤكداً استقرار الأوضاع بولاية الخرطوم.

تحقيق: بهجة معلا
صحيفة الصيحة