حكاية لها ما بعدها
ذكريات كل إنسان هي أدبه الخاص .. (ألدوس هكسلي)
كانت أمي مدرسة إبتدائي، وعندما كنت في الصف الثاني تم نقلها للتدريس في مدرسة أولاد، فكان من الطبيعي – أو المقبول – أن أنتقل معها .. وهناك كنت التلميذة الوحيدة في مدرسة كلها تلاميذ، يلبسون القمصان والشورتات، ويخرجون سيقانهم النحيلة للهواء الطلق، بينما كنت أستبدل الشورت ببنطلون جينز مراعاة لمقتضيات اختلاف النوع
هناك في مدرسة الأولاد وقفت حائرة أمام أول امتحان في التعامل مع الجنس الآخر، فإما أن أبدو – كما كنت في داخلي – فتاة خجولة ضعيفة فأصبح مثار سخرية ومصدر تسلية، وإما أن يكون رد الهجوم بمثله هو خير وسيلة لدفاعي، وقد كان .. لم يكن ذلك شراً منِّي بقدر ما كان خوفاً ..!
في تلك المرحلة تعلمت درساً جندرياً أصيلاً مفاده أن الذكور في أي سلالة يهابون الأنثى القوية – أو على الأقل يتركونها في حالها – وقد أسست «مدرسة الأولاد» لفعل ثوري مهم جداً في حياتي (طبيعة موقفي من الرجل، وخصوصية نظرتي لسلوكه العام، وصرامة أحكامي على مواطن ضعفه) .. وهكذا .. ظللت أتبع سياسة نابليون في معاملة جميع ذكور المدرسة ما عدا صديقي الوحيد أحمد ..!
أحمد ود فاطنة (الذي كان طفلاً ذكياً، شديد الحساسية، ضعيف البنية) هو أصغر أفراد أسرة فقيرة كانت تحرس المدرسة وتقيم بـ (قُطِّيَة) صغيرة في حوشها الكبير .. ولسبب لا أدريه كنت أشعر بعطف شديد وأمومة غامرة تجاه أحمد، بل واعتبر نفسي مسئولة عنه رغم كوننا أنداداً ندرس في ذات الفصل، إلى درجة أن أحداً من أشرار الأولاد لم يكن يجرؤ على مضايقته وهو في معيَّتي ..!
ذات نهار طويل، قائظ، كنت بانتظار أمي على باب المدرسة عندما سألني أحمد (انتوا غداكم الليلة شنو)؟! .. فقلت له – على الفور ــ بتلقائية الأطفال التي لا تخالطها دهشة ــ (ملوخية ورز) ..!
سبب توافر الإجابة هو أن أمي كانت تطبخ أغلب طعام الأسبوع وتحفظة في الثلاجة (كان والدي مغترباً نوشك أن نلحق به، وكنا نحن صغاراً لا نفهم كثيراً في مسألة وش الملاح!) .. ثم جاء دروي، سألت أحمد ذات السؤال.. فأجابني قائلاً (نحن ما عندنا ملاح) ..!
بقيت طوال طريق عودتنا من المدرسة حزينة صامتة كالأسماك، وما أن وضعت أمي أمامنا صينية الغداء حتى انهمرت دموعي .. ظللت أبكي وأرجوها أن نأخذ حلة ملاحنا ونذهب إلى أسرة أحمد في حوش المدرسة لنتغدى معهم! .. ولأن التنفيذ كان مستحيلاً بحسابات الكبار رفضتُ أن أمس ملوخية أمي تضامنا مع حرمان أحمد ..!
ثم تطورت عاطفتي الجياشة الى تضحيات طفولية (كنت أعطيه السندوتش الخاص بي وأذهب للتطفل على فتات مائدة المدرسات بجوار أمي) ..!
إلى أن جاء أكثر أيام طفولتي حزناً وبكاء، سافر أحمد في الإجازة السنوية مع أسرته إلى بورتسودان، وظللت ألعب وحدي بانتظار عودته، لكنني لم أقابله ثانية أبداً، ولم أسمع عنه شيئاً حتى اليوم ..!
رحل صديقي الصغير إلى الأبد، وغاب في زحام الحياة بلا وداع .. لكنه بقي في ذاكرتي كما هو .. صغيراً .. ضعيفاً .. ومحتاجاً إلى حماية شخصٍ ما ..!
هناك فرق – منى أبو زيد
صحيفة آخر لحظة
اها يا بت اب زيد حكيتى القصة دى ليه عشان الملوخية والرز و لا البعد كدا شنو ماف خلف القصة شى
قصة تلامس القلب و الشعور…مثل هذه اللمسات الإنسانية ذات دلالات عميقة و تحمل في طياتها معان كبيرة..شكرا على هذا الدفق الدافئ و السامي و الحزين أيضا.