غزة .. أرقام ومدافن وزعماء
بكلّ حال، حيًّا كنتَ أم ميّتًا، هناك رقمٌ سيدلّ عليك، في المدارس والجامعات والمشافي والبيوت والسّجون وأثناء دفع الفواتير والمخالفات وحتّى خلال انتظارك طابور الخبز، الخ الخ، هو تمامًا كما الرّقم أثناء العَسكرة؛ لا أهميّة لوجودِ اسمٍ أو صفةٍ تتعلّق بك، غير مهم، أنتَ حيٌّ يحملُ رقمًا سيخبر عنك حال موتك.
“مدافن الأرقام” هو ما يُطلَقُ اصطلاحًا على الأماكن التي يقوم بغاة إسرائيل باحتجاز جثامين الفلسطينيين فيها، هكذا، بكل ما يحملهُ هذا الفعلُ من بنيةٍ وحشيّةٍ وضيعةٍ لا أخلاقيّة، سينتقم الصّهاينة من الفلسطينيين أثناء حيواتهم وبعد موتهم، كما بذات الفعل سينتقمون من عوائلهم، كلّ جسدٍ يحتجزونه سيُرمى بلا اسم أو هويّة، لن يتمّ تسليمه كما لن يتمّ بشكلٍ نهائيّ دفنه، فقط سيحمل رقمًا لزوم توثيق “السجلّات”، وكلّها “الأجساد” ستغدو ملفًا جيّدًا للقيام بأيّ مفاوضات حسب وجهة النّظر الإسرائيليّة.
هي أشباه مقابرٍ سريّة تقع ضمن مواقع إسرائيليّة عسكريّة مغلقة، هذه المقابر “الحُفَر العشوائية” غير معدّة أو جاهزة لحفظ الجثث بشكلٍ يضمن عدم نهشها أو اندثارها أو ضياعها، بل أيضًا تعتبر سوقًا خصبة لسرقة وتجارة الأعضاء البشريّة؛ معظم من حالفهم الحظ في استعادة جثث أبنائهم كانوا قد استلموا بقايا، هياكل فارغة.
عندما تتمّ مطالبة سلطات الاحتلال الإسرائيليّ بالكشف عن مصير الجثث وتسليمها، يلجأ المطالبون إلى ترديد أن هذا الإجراء -احتجاز الجثث- هو مخالفةٌ صريحة للمواثيق الدوليّة ومقرّرات جنيف والشّرعية الدوليّة و و .. و، هذا طبعًا لأن الصهاينة يعملون وفق المواثيق والمعايير الدوليّة ذاتها الّتي هي ذاتها من سمحت وتسمح بكلّ ما يحدث.
أجل، هذا لم يعد مهمًا، هذه أخبارُ موتٍ مُكرّر لا تكترث له الوكالات الإعلاميّة الّتي يعوّل عليها في أن تُشكل ولو بشكلٍ ضئيل ضغطًا أو رأيًا شعبيًّا متّسقًا، الشّأن البرّاق الهامّ الآن هو عن خلافة العَم “أبو مازن” الشّهير بمحمود عبّاس، عن البطل الجّديد الّذي باتت المطالبُ -على الأقل- ألّا يقوم بالمشاركة في جنازات خلفاء شمعون بيريز، ألّا يُظهِر حزنهُ واضحًا أمام أهالي الضّحايا والمعتقلين والمفقودين.
هؤلاء الزّعماء، أيضًا، كلّهم، أرقام.
العربي الجديد