تجارة العملة المعدنية.. بيع المال بالمال
من أكثر المشاهد المعتادة لمرتادي موقف مواصلات السوق الشعبي الخرطوم هو تجارة العملة المعدنية المتداولة بين المتسولين والمتسولات، وسائقي الحافلات ومساعديهم (الكماسري).. حيث يتم استبدالها بالعملة الورقية مقابل ربح عالي، تجارة رابحة تجعل متسولي السوق الشعبي ينهون يومهم فرحين بحصاد وفير، فيما يحرمها رجال الدين ويدخلونها تحت مظلة الربا.
إنحراف مجرى التحقيق:
كانت فكرة التحقيق في البداية أين تذهب هذه العملات المعدنية أي أين تصب في نهاية المطاف؟ جولة واحدة بموقف جاكسون وتجاذب أطراف الحديث مع تجار العملة المعدنية هناك غيرت مجرى التحقيق، فبدلاً من السؤال أين تذهب هذه العملات-تغيرت- من أين تأتي هذه الكميات الضخمة؟ وكانت المعاناة في الحصول على معلومات من الجهات الرسمية، فلأكثر من اسبوعين ظل خطاب الصحيفة لبنك السودان المركزي لإفادة محررة الصحيفة حول مصدر هذه العملات المعدنية، باعتباره الجهة المسؤولة عن العملات، إلا أن الخطاب ظل حبيس أضابير البنك مع المماطلة في تحديد زمن للحصول على المعلومات، وعليه اضطرت الصحيفة لتجاوزه والإعتماد على مصادر مصرفية تحقيقاً للمهنية.
تمددت الظاهرة لتنتقل لمواقف وسط الخرطوم وكل المحليات، ولكنها تطورت وأصبح لها تجار متخصصون، وما عاد المتسولون وكمسارة الحافلات العملاء الوحيدين.. مع إنحراف مجرى التحقيق أجرينا جولة بموقف المواصلات بالسوق الشعبي الخرطوم، وتابعنا مراحل استبدال العملة المعدنية بين المتسولين وسائقي المركبات العامة عثرنا على ما يثير الإندهاش، عندما وجدنا أن هنالك تجارة رائجة جداً ومربحة، حيث وجدنا أنه في كل (100) جنيه من العملات المعدنية يخصم (5) جنيهات لاستبدالها بالعملة الورقية.
شركات تشغل الباعة من الباطن
بقليل من المتابعة وجمع معلومات من تجار هذه الفئة من العملات إكتشفنا وجود شركات تشغل هؤلاء الباعة من الباطن، وقال مصدر مصرفي مطلع لـ(آخر لحظة): إن هناك بعض من هذه الشركات التي تقوم بالتجارة في العملات المعدنية مسجل والبعض الآخر شركات وهمية، تعمل بموافقة من بنك السودان، لافتاً الى وجود تباين في وجهات النظر داخل الوسط المصرفي، ففيما ترى مجموعة من المصرفيين حرمة هذا النشاط باعتباره تجارة المال بالمال وأرباحه بوتيرة متسارعة، ولا تعرف الخسارة أبداً، تحلل المجموعة الأخرى النشاط باعتباره يسهل تعاملات المواطنين المالية.
مقابل (المائة) (خمس) جنيهات
مع بداية خوضنا في التحقيق تجاذبنا أطراف الحديث مع عدد من تجار العملة المعدنية، أو الذين يعرضون العملة المعدنية للبيع في مواقف المواصلات والساحات العامة الذين تحفظوا على ذكر أسمائهم.. موضحين أن العملة المعدنية (فئة) الجنيه يقومون بشرائها من أصحاب الأعمال الهامشية من المتسولين والباعة المتجولين، وأصحاب الدكاكين الذين يقومون باستبدال العملة المعدنية مقابل العملة الورقية وتوفيرها للمواطن، وأضافوا بأنهم في كل(100) جنيه معدنية يأخذون مقابلها خمس جنيهات كفوائد، لافتين عدم استلام بنك السودان للعملة المعدنية، وأن المواطنين يقومون باستبدالها من التجار مهما بلغ عددها.
فوائد تصل 30٪%
وعلى ناصية موقف جاكسون الغربية يجلس بائع العملة خلف منضدته، التي تراصت العملة المعدنية فوقها فئة الجنيهات، ويروي تفاصيل عمله بالآتي: أعمل في هذه المهنة ما يقارب (15)عاماً، وفي البداية كنت أجمع العملة من أصحاب البقالات وبعدها أرشدني زميلي للبنوك والصرافات، حيث نتحصل عليها بعد إيداع مبلغ مناسب للبنك مقابل إعطائنا العملة..
وفي جانب آخر يقف بائع العملة المعدنية (س،م) الذي قال: في السابق كنا نأخذ العملة المعدنية من بعض الشركات التي تأتي العملة المعدنية من المخابز وغيرها وتمنحها لنا لنقوم بتوزيعها مقابل فوائد تصل الى 30% وفي الآونة الأخيرة امتنعت هذه الشركات عن إعطائنا العملة.
وللمتسولين حديث
ويقول أحد المتسولين: إن جميع المارة بالطريق يتخلصون من الجنيهات المعدنية بإيداعها في إناء المحتاجين، ويكشف عن جمعه مايقارب المليون من العملة المعدنية (الحديد) في اليوم الواحد، ويقوم بتوزيعه على أصحاب المحلات والكماسرة، بسبب خصم تجار الفكة عند الإستبدال.. بينما استخف زميله الذي يجلس بجواره من سؤالي وشارك في الحديث قائلاً: (الجنيه الحديد ده بسوي شنو) يتخلص منها المواطن لعدم مقدرته على حملها، ونحن أكثر الشرائح التي تتمسك بهذه الفئة الحديدية، إذ يصل دخل الفرد الى أكثر من (1500) جنيه يومياً، إلا أنه عندما يريد أن يستبدلها بعملة ورقية يأخذ منه تجار الفكة خمسة جنيهات مقابل كل (100)جنيه.
تقويض النظام:
ويرى الخبير القانوني مجدي سرحان أن تجارة العملة المعدنية تهدد الأمن القومي الاقتصادي، مطالباً بمعاقبة كل من يتاجر فيها لعقوبة تصل الى السجن، وذهب سرحان الى أبعد من ذلك، عندما قال تندرج هذه العقوبة تحت القانون الجنائي في المادة (50)، التي تتحدث عن تقويض النظام الدستوري للدولة، لأن هذه الفعل يؤدي لإرتفاع التضخم، وبالتالي يقود الى انهيار النظام الإقتصادي القائم في البلاد، مضيفاً لا يجوز التجارة في العملة المعدنية، واعتبر هذا الأمر ينقص من القيمة الفعلية للعملة، بل يهدر ويقلل من قيمتها.. وقال: من المفترض أن تعمل نيابات الجهاز المصرفي ووزارة العدل والجهات المختصة على ملاحقة هؤلاء وتوقيع أقصى العقوبات عليهم.. مشيراً لوجود سياسة مبرمجة تسعى لتدمير الاقتصاد، موضحاً لا توجد مثل هذه التجارة على مستوى العالم، ومن ناحية فقهية يعتبر ربا محرماً في جميع الأديان.
ممارسة غير سليمة:
فيما أرجع رئيس اتحاد الصرافات الأسبق عبد المنعم نور الدين وجود تجار في سوق الفكة، لغرض توفيرها للمواطنين لعجز البنك المركزي عن إيصالها لأيادي المواطنين.. موضحاً في السابق كانت هنالك عربة تابعة للبنك المركزي تقوم بعمل الفكة، ووصف بيع العملة في الطرقات والشوارع بالممارسة غير السليمة وتصب في بيع المال بالمال، وقال إنها مهمة البنك المركزي من ناحية قانونية إصدار العملة بشقيها المعدني والورقي، وتوفيرها للمواطن ومراقبتها وتنظيم تداولها.. موضحاً أن البنوك التجارية تخلو من الفكة وذلك لإنعدام المواعين الحسابية فيها، داعياً لضرورة إيجاد ماكينات (مثل الصرافات) في الشوارع لتوفير العملة بدل من تجار المرابحات المحرمة.
اجراءات قانونية:
ووصف الخبير المصرفي شوقي عزمي الأمر بالكارثة، في حال عجز البنك المركزي عن توفير هذه العملة وتركها لشركات تقوم بتوزيعها مقابل (5)جنيهات للمائة.. ويرى أن استبدال العملة المعدنية بالورقية مع وجود خفض في القيمة نوعاً من الربا الواضح، وحث القائمين على أمر العملة باتخاذ الاجراءات القانونية، مردفاً أنه على البنك توفير العملة المعدنية بكافة المصارف، حتى تكون تحت الطلب، مبيناً أن هذه السلوك مدمر للاقتصاد، حتى وإن كان اقتصاداً كبيراً، مشيراً لوجود جهات منتفعة من هذه الممارسات، نافياً وجود مثل هذه التعاملات في عدد من الدول العربية والأفريقية.
نوع من الربا:
يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) ومن منطلق الآية جزم الأمين العام لهيئة علماء السودان ابراهيم الكاروري بحرمة هذه التعاملات، وقال: إن تحويل العملة لتجارة أو مهنة يُعد من التعاملات الربوية، وهو بيع المال بالمال المحرم شرعاً، إذاً تعد من التعاملات غير الصحيحة وتستوجب عقوبة الله سبحانه وتعالى في الآخرة، وتدخل في بيع النقد بالنقد وهذه ما نهى عنه الرسول صلى الله علية وسلم، كما أنها تمحق المال وتنزع البركة منه، كما أشارت العديد من الأحاديث عن حرمة الربا، وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله آكلَ الرِّبَا ومؤكلَه وشاهدَيه وكاتبَه).
نشاط طفيلي:
ويرى الخبير الاقتصادي كمال كرار أن تدخل شركات في استبدال هذه العملة يعني تنصل بنك السودان عن واجبه، وأضاف أن هذه الشركات تأخذ أموالاً دون وجه حق، طالماً أنها تخصم عمولة من جراء تبديل العملة المعدنية بالورقية، ووصف كرار هذا النشاط بالطفيلي، وقال إن كانت الشركات تقوم بهذه العملية تحت موافقة البنك، فمعنى هذا أن البنك يساعد في ترويج النشاط الطفيلي، وأبان أن مهمة استبدال العملة بالقانون تعد من واجب البنك المركزي، وعلى المواطنين التمسك بحقهم وإجبار البنك على تبديل العملة المعدنية بالورقية، واتخاذ الاجراءات القانونية في مواجهة التجار والمنتفعين.. مشيراً لتأثير المباشر والانعكاسات السالبة لهذ النشاط الطفيلي على جسم الاقتصاد، إذ تصب كل الفوائد في مصالح أفراد معينين، ولا تذهب لصالح الخدمات ويحدث الثراء غير المشروع، مما يؤدي لقيام مشاريع أخرى من فوائد هذا الدخل، وغير شك تكون غير مشروعة، بجانب تعرض المواطنين للسرقة والنصب تحت مسميات كبيع الفكة وغيرها.
تحقيق:زكية الترابي
صحيفة آخر لحظة
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَيْسَرُهَا؛ مِثْلُ إتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ”. وعنه أيضا قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ظهر الربا والزنى في قوم إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عزّ وجلّ) والتعليق لكم…