منوعات

كيف تغيرت المسيحية بفضل الهواتف الذكية ومواقع التواصل الإجتماعي؟

يتجه كثير من المسيحيين الآن إلى التطبيقات والرسوم الهزلية كوسيلة للتعبير عن معتقداتهم وآرائهم الدينية بدلا من التعبير عنها في الكنائس، مما يثير تساؤلات عديدة حول مستقبل الديانة الأكبر في العالم.

في عام 2008، عندما وصل القس بيت فيليبس إلى مدينة دورهام، طرده أحد الأشخاص من كاتدرائية المدينة لأنه كان يقرأ الإنجيل على هاتفه المحمول أثناء جلوسه على أحد المقاعد الخشبية. إذ لا يُسمح بدخول الهواتف المحمولة إلى مكان العبادة، وبالطبع لن يصدق الشخص الذي طرده أنه كان يستخدم الهاتف للعبادة.

ويقول فيليبس، وهو مدير مركز كوديك للأبحاث في مجال اللاهوت الرقمي بجامعة دورهام في المملكة المتحدة: “شعرت بالاستياء حينئذ”.

لكن سياسة الكاتدرائية تغيرت الآن لتواكب التطورات الحديثة. وفي العام القادم سيكون قد مرّ على إنشاء كاتدرائية دورهام ألف عام. ويقول فيليبس: “يُسمح للناس الآن بالتقاط الصور، واستخدام الهواتف لأغراض العبادة أو لأي غرض كان. لأنك لو منعت الناس الآن من استخدام الهاتف فكأنك تطلب منهم أن يقطعوا أذرعهم”.

كما تبنت الكنيسة في السنوات القليلة الماضية مواقف جديدة أخرى ذات صلة بالوسائل التكنولوجية، بخلاف موقفها تجاه الهواتف المحمولة مقارنة بتلك التي كانت تتبناها قبل بضع سنوات، فانتشار التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي يغير من الطريقة التي يتعبد بها الكثير من مسيحيي العالم اليوم البالغ عددهم ملياري شخص.

وفي قرية هونلي، في جنوب مدينة هدرسفيلد، يدير القس ليام بيدل، في كنيسة سانت ماري الإنجيلية، حساب الأبرشية على موقع تويتر.

ويدير أحد القساوسة الآخرين في الكنيسة نفسها حساب المجتمع الكنسي على موقع فيسبوك. وكان أسقف ليدز، نيك بينز، من أوائل الأساقفة الذين أنشأوا مدونات على الإنترنت، ويعرف في الكنسية باسم “الأسقف المدون”.

ويقارن بيدل بين موقف الكنيسة الآن من مواقع التواصل الاجتماعي وبين رد فعلها قديما حيال اختراع آلة الطباعة، ويقول إن الكنيسة اتخذت آنذاك تدابير استباقية. لكن الآن بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الكنيسة تتفاعل معها وتؤيدها، كما يقول.

ويقول فيليبس إنه من الصعب أن ندير ظهورنا للهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي بعد أن تغلغلت في كل جوانب حياتنا، وأصبحت تغير من الطريقة التي يمارس بها الناس العبادة.

وتستخدم المؤسسات الدينية الآن وسائل التواصل عبر الإنترنت لمساعدة الناس في نشر أفكارهم والعبادة من خلالها.

ويضيف فيلييس: “لكن هذه الوسائل التكنولوجية قد أسهمت في تشكيل شخصية المتدينين وغيرت من سلوكياتهم”.

تتبنى أغلب الكنائس الآن مواقف أقل تشددا تجاه استخدام الهواتف

إن أغلب الناس الذين يمعنون النظر في هواتفهم في الكنائس ربما يقرؤون الإنجيل على تطبيق يسمى “يوفيرجن”.

وهذا التطبيق حمَّله أكثر من 260 مليون شخص حول العالم منذ إطلاقه في عام 2008.

وتوجد تطبيقات شهيرة أخرى للقرآن، والتوراة.

ويقول فيليب “من أول الاستخدامات الدينية للكمبيوتر كان تحويل الإنجيل إلى النسخة الرقمية”. ثم وصلت هذه النسخ الرقمية من الإنجيل إلى الهواتف المحمولة. ويضيف فيليب: “وأصبح الإنجيل الرقمي على الهاتف المحمول بديلا للإنجيل الورقي إلى حد ما”.

وتقول الشركة التي أطلقت تطبيق “يوفيرجن”، إن مستخدميه قضوا حتى الآن ما يزيد على 235 مليار دقيقة في استخدامه، وظللوا نحو 636 مليون آية من الإنجيل.

لكن قراءة الإنجيل على هذا النحو تغير من الطريقة التي يستشعر بها الناس الإنجيل بشكل عام.

ويقول فيليب: “إن الإنجيل الورقي أكبر حجما ويحوي عدة أسفار، وعليك أن تتصفحه لتصل إلى الجزء المراد قراءته. فكما تعلم أن سفر الرؤيا هو آخر أسفار العهد الجديد، وسفر التكوين هو أول أسفار العهد القديم، وبينهما سفر المزامير.

وإن قرأت النسخة الرقمية لن تجد أي حدود بين الأسفار. فأنت لن تقلب صفحات الكتاب بل ستذهب إلى هذا الفصل الذي تريد قراءته مباشرة، ولن تعرف ما الذي يأتي بعده أو قبله”.

ويستكشف الآن بعض الباحثين، ومنهم فيلييس، كيف قد يؤثر التفاعل مع الإنجيل في نسخته الرقمية المصغرة على تشكيل آراء الناس. إذ قد تؤثر الطريقة التي تقرأ بها الكتب السماوية على كيفية تأويلهم لها.

وتشير الدراسات على سبيل المثال إلى أن النصوص التي تُقرأ على الشاشات تفهم بشكل عام فهما حرفيا، على عكس النصوص التي تُقرأ من الكتب الورقية. كما أنه من المرجح أن يتذوق المرء السمات الجمالية للنص، مثل الأفكار الأشمل والجانب العاطفي، إذا ما قرأه في صورة كتاب.

وفي النص الديني، هذا الفارق قد يحدث تأثيرا كبيرا. ويقول فيليس: “عندما تقرأ النص على الشاشة فلن تتفاعل معه في الغالب وجدانيا، بل ستذهب إلى المعلومة مباشرة. إنه نوع من القراءة الفاترة، ولم يكتب الإنجيل ليُقرأ على هذا النحو. فأنت تقرأه كما لو كنت تقرأ نصا على موقع “ويكيبيديا” وليس نصا مقدسا”.

ويقول فيليبس إن البعض يعتقدون أن المغالاة في التفسير الحرفي للنصوص الدينية قد تؤدي إلى التقيد الصارم بالمبادئ أو ما يسمى بالأصولية. فإذا اعتمدت على سرد سفر التكوين، على سبيل المثال، لمسألة خلق الكون في ستة أيام، فعليك أن تكذب العلم.

لكن في الوقت نفسه، أسهم انتشار مواقع التواصل الاجتماعي ولامركزية النشاط الديني، في دعم فرع مستقل من العبادات في الدين المسيحي الذي ازدهر في الآونة الأخيرة. إذ يرى كثيرون أنه ليس من الضروري التردد على الكنيسة للعبادة.

ويشير استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث، أن واحدا من بين كل خمسة من الكاثوليك، وواحدا من بين كل أربعة من البروتستانت لا يحضرون، أو نادرا ما يحضرون، القداس في الكنيسة.

من أول الفوائد التي جناها المسيحيون من الكمبيوتر كانت تحويل الإنجيل إلى النسخة الرقمية

ومن خلال بث آيات الإنجيل عبر التطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، يستطيع الناس ممارسة طقوسهم والتعبير عن إيمانهم بمنأى عن الآخرين. ويمكنهم أيضا أن يختاروا التعاليم والمعتقدات التي يرونها مناسبة ويتفادوا تلك التي لا يتقبلها الآخرون.

إذ أن الكثيرين ممن يعدون أنفسهم مسيحيين نشطين قد لا يؤمنون بالله أو المسيح أو حتى الأعمال المذكورة في الإنجيل.

يقول فيليب: “ظهر نوع جديد من الديانة المسيحية المعدلة لتوافق العصر الرقمي. هذا النوع يلتزم بالكثير من المبادئ الأخلاقية العلمانية”.

ويعرف هذا الشكل من أشكال الإيمان الذي يقر بأن الله خلق الكون ووضع النظام الأخلاقي ولكنه ينكر تدخله في حياة الخلق باسم “الربوبية الأخلاقية”.

ويركز هذا الشكل على الجانب الخيري والأخلاقي للإنجيل، وهي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الدين، ويتغافل عن أن خالق الكون إله بصير وقدير.

وقد وصف علماء الاجتماع هذا النوع من الإيمان للمرة الأولى في عام 2005، ولكن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي عملا على نشره على نطاق واسع.

وتقول هايدي كامبل، من جامعة تكساس أيه أند إم، والتي تدرس الدين والثقافة الرقمية: “يبحث الناس عن تجربة دينية تتفق مع ميولهم الشخصية”.

ويقول فيليبس: “يفضل أبناء جيل الألفية الجديدة هذه الصورة العامة عن الله الخالق الذي لا يتدخل في شؤونهم، ويفضلون الله عن المسيح، لأن الله أشمل. فهم يعتقدون أن الله يساندهم ويتركهم ليسيّروا حياتهم كما يشاؤون، على عكس المسيح الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم”.

كما أن نشر الآيات عبر مواقع التواصل الاجتماعي يتيح للناس اختيار الآيات التي يريدون قراءتها بدلا من الجلوس والاستماع إلى الآيات التي يختارها لهم القس يوم الأحد في الكنيسة. ويتوقف انتشار آيات الإنجيل على تقبل الناس لها، فكلما زاد قبولها اتسع انتشارها.

وقد تبين أن أكثر آيات الإنجيل انتشارا، سواء تلك التي قام الناس بتظليلها على هواتفهم للرجوع إليها، أو تناقلها على مواقع التواصل الاجتماعي عبر تطبيق “يوفيرجن”، هي الآيات التي تعكس في الغالب المُثل العلمانية والشاملة التي ينطوي عليها مذهب “الربوبية الأخلاقية”.

ويتعلق كثير من هذه الآيات بالصراعات الشخصية أو التعامل مع القلق على سبيل المثال، وليس إبراز عظمة الله.

إن اختيار الناس للمعتقدات الدينية التي تناسب أهواءهم ليس أمرا مبتدعا، ولكنه أصبح أسهل الآن من أي وقت مضى.

وتقول كامبل: “إن الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي يساعدان الناس في تشكيل الدين كما يتناسب مع ميولهم الشخصية بطرق ملموسة. فقد أتيح لنا قدر أكبر من المعلومات والآراء وأصبح بإمكاننا أن نحدد بأنفسنا الإيقاع والمسار الديني الذي يناسب شخصياتنا”.

شهدت كاتيدرائية دورهام، بعد مرور ألف عام على إنشائها، الكثير من التغيرات، كان آخرها موقفها من الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي

وهذا يتضمن نقل صور تظهر الشخصيات المقدسة في إطار هزلي. ومن أشهر هذه الصور الهزلية تلك الصورة التي تظهر المسيح يُعلم مجموعة من الحواريين، والتي حققت انتشارا واسعا في عام 2012، وأضيف إليها الكثير من التعليقات التي تعرض الآيات الدينية باللغة العامية، ولم تقل شهرتها حتى الآن.

ومن بين الصور المنتشرة الأخرى تصوير المسيح وهو يرتدي زي الأرنب “باني” أو كمؤيد للحزب الجمهوري.

ورغم أن الكثير من هذه الصور الهزلية كان الغرض منها في البداية التندر والتهكم، إلا أنها تُستغل الآن لنشر الأفكار الدينية أيضا.

وتقول كامبل: “يستغل الناس الصور الهزلية لإثارة النقاش حول الدين وتأكيد المعتقدات. فهذه الصور الهزلية لن تتعرض بعمق للحقائق الإلهية المسلم بها، ولكنك قد تستخدمها لتلخيص جوهر القضية لجذب اهتمام الناس واستدراجهم للنقاش”.

وهذا ينطبق على نشر الأفكار على موقع تويتر أيضا. وبدأت بعض الكنائس في مختلف بلدان العالم تحث المصلين على نشر تعليقات أو مقاطع فيديو قصيرة عن العظة عبر موقع تويتر أثناء إلقائها.

ومنذ سنوات قليلة بدأت كاتدرائية في المملكة المتحدة في نشر القداس عبر موقع تويتر. ويقول بيدل: “أثيرت الكثير من التساؤلات حول مدى ملاءمة مواقع التواصل الاجتماعي لنقل القداس. ولا يزال الجدل قائما حتى الأن. وقد يزعم البعض أن المشاركة على موقع تويتر ستلهيك عن الإصغاء باهتمام للقداس”.

وفوق كل هذا، يخشى البعض من أن تكون مجموعة التغريدات القصيرة عبر موقع تويتر غير مناسبة لعرض المفاهيم الملتبسة والضمنية.

وتقول كامبل: “عندما تنقل فكرتك في رسالة لا تتجاوز 140 حرفا أو مقطع فيديو مدته سبع ثوان، فعليك أن تختصر، ولذا، ستكون الرسائل إما نمطية أو مبسطة. ومن المهم أيضا أن تتعامل مع الوسائل التي تستخدمها بالاحترام الذي تستحقه”.

وربما لهذا السبب تعاملت كاتدرائية درهام بحذر مع استخدام فيليبس للهاتف داخلها سنة 2008.

وتقول كامبل، إن في مختلف الأديان الآن، وليس المسيحية فحسب، تراجعت أهمية الواعظ الذي يعتلي المنبر كمصدر للمعلومات الدينية.

وتضيف: “يعتمد الناس على الوسائل الرقمية للتواصل مع الأخرين. والناس الذين يأتون إلى أماكن العبادة لديهم توقعات لصورة المجتمع والقدر الذي سيتاح لهم من الحرية فيها، ولهذا فإما أن تغير المؤسسات الدينية أساليبها لتواكب الوضع الجديد، أو ستصبح استثناء عن الأخرين”.

ولا تزال الديانة المسيحية تغير من نفسها لتواكب التطورات المتلاحقة منذ قرابة ألفي عام. ولعل الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي هي آخر التطورات التي أجبرتها على التغيير.

BBC