تحقيقات وتقارير

“كولمبيا السودانية”… مخدِّرات على قارعة الطريق

مروِّج: أنا خبرة خمسين سنة في الشغلة دي وبضاعتي الأجوَد في السوق

طفل الآيسكريم يتحصَّل على خمسين جنيهاً مقابل ترويج “الرأس” الواحد

رأس “البنقو” يُطلق عليه لقب “الباسم” ويطلبه الأغنياء.. أما الفقراء فيكتفون بـ”المدوّرة”

أم درمان: محمد داؤد

“يا أخوي كولمبيا دي بقت لينا وطن ودولة”.. لم يكتف محدثي بهذه الكلمات التي ابتدر بها حديثه بل مضى معرّفاً عن منطقة تُباع فيها المخدرات وتقع بمحازاة النيل الأبيض وتحديداً شمال غرب كبري الإنقاذ “الكبري الجديد” الذي يربط بين منطقة الفتيحاب بأم درمان وبين الخرطوم، وهي المنطقة التي يطلق عليها أسم كولمبيا. وأكد محدثي أن كولمبيا بالنسبة لهم ليست مجرد موقع جغرافي وإنما مصدر للتكسب وبيع وشراء المخدرات.

بقي أن نشير إلى أن جولة “الصيحة” لا تدعي أنها اكتشفت المنطقة، ذلك أن كولمبيا السودانية تقع وللمفارقة وسط العاصمة وتباع فيها كل أنواع المخدرات. وعليه سنقرع الجرس للتذكير ليس إلا، ونتمنى ألا يطول انتظارنا لردود فعل السلطات التي طرقت أذنها تنبيهات سابقة كثيرة.

سمحة الصدف

لم يكن هدفي زيارة كولمبيا، ولكن شاءت الصدفة أن أحط رحالي فيها، فقد كنت على موعد أسري بالقرب منها، وأثناء تواجدي تردد على مسامعي من قبل شباب كنت أجلس قبالتهم بمنتجع الروابي “بمحازاة كبري الفتيحاب الجديد” اسم كولمبيا كثيرًا، وحينما استفسرت عرفت أنه المكان الذي أجلس بالقرب منه وتباع فيه كل أنواع المخدرات، فقررت أن أقترب منه والتعرف على هذا العالم الغريب، وبالفعل ساقتني خطاي للتعرف على مجتمع رغم حرمة ما يمارسه من تجارة إلا أنه مجتمع شفاف وواضح إلى أبعد الحدود يقر بكل ما تقترفه النفس الأمارة بالسوء، ويبوح بما تخفيه الصدور، بل إن هذا المجتمع يفحص وضعه ويعلم روشتة الدواء ويقر بأنه متسبب في أذى كبير للناس، وفي نفس الوقت يطالب بمحاربة عاداته وتقاليده التي يقر بأنها مستوردة.

للأصلي أكثر من معنى

توجهت نحو كولمبيا وهي تقع على مساحة واسعة تحيط بها الخضرة من كل الاتجاهات وتقع غرب النيل الأبيض وهو شاهد رأى كل شيء غير أنه يكتفي بالصمت.

دلفت إلى المكان ووجدت أمامي عددًا من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين، تبدو عليهم علامات التوتر، هممت بسؤالهم ولكن بادرني أحدهم قائلاً “خش في الأصلي يا معلم” حينها تملكتني الدهشة، وازدادت نبضات قلبي، وارتعش الجسد وصار حالي أقرب إلى حال المغشي عليه من الموت، هممت بفهم المعنى وتأخرت في الرد وتلكأت في الكلام خائفاً من أن يكون جوابي بخلاف ما تهواه أنفسهم، وتوكلت على الله وقلت في نفسي إعطيهم إجابة ملتبسة غير مفهومة الدلالة حتى لا أفوِّت على نفسي أن أعرف ما هو الشيء الذي يُطلق عليه لقب “الأصلي”، فقلت لهم “ضروري شديد لكن أشرب قهوة وأجيكم” قلت لهم سريعا “أين سأجدكم” ولم أكن أعلم أن الرد بهذه الكيفية سيثير غضبهم ويتم تصنيفي إلى جهة يكرهون ذكر اسمها لانها عدوهم اللدود، فقال لي “كبر يا فردة.. انت قايلنا فارشين تسالي” ومضوا مغاضبين مع ذكر مصطلحات نابية أثارت غضبي، وحينها توجست منهم وعلمت أن أمرهم مريب.

الحديث المر

بدأت أسأل عدداً من أصدقائي عن هذه المنطقة، على أمل توفر المعلومة الكافية لرسم مخطط اقتحامهما، ليس الاقتحام بمثل تلك الأسلحة التي تحيط بالمكان خصوصًا وأن الناحية الغربية هي مبنى الأركان المشتركة، ومن الشرق نقطة تفتيش العبور بكبري الفتيحاب والذي استعار منه الكثيرون أسماء بمعنى الهرولة نسبة لما يحدث من هرولة في هذه المنطقة حسبما قال لي عدد من المجاورين من المنطقة، وكانت أكثر المعلومات أهمية، والتي رفدني بها الموجودون يومياً بالقرب من المكان، هي ألا أحاول فرض هيبة سلطوية لأن هذه المملكة للسلطة لها نافذة، بل يجب على الزائر أن يقتحم هذه الأسوار من أشواك الأشجار ويلقي كل صفاته التي تعبر عن كينونته بعيداً.

مقومات

بدأ تنفيذ الخطة المرسومة لدخول المملكة بالجلوس على جانبي الطريق والانشغال بأي شيء حتى نتمكن من رصد حركة الدخول والخروج، كان الأمر مدهشاً خصوصًا تلك السيارات التي تقف أمام منتزه الروابي برهة من الزمن وفجأة تجد الكثيرين لا يتجهون صوب المنتزه وإنما تتجه خطواتهم لقطع الطريق والدخول إلى المنطقة، وآخرون يدخلون المنتزه، ولكن يجلسون لبرهة من الزمن، ومن ثم يكون الخروج سريعاً.

ظللتُ جالساً على الجانب الشمالي للكبري متأملاً ومراقباً حركة الناس والأشياء من حولي، على أمل أن أصيب مرماي بقدوم أحد الذين استهدفهم، وأنا في غمرة ذلك أجد نفسي قد غرقت في تأمل المكان الذي يتميز بالهواء الطلق والخضرة والماء والوجه الحسن، وهذه المقومات علمت سابقاً أنها أحد الأسباب التي جعلت المنطقة تستعير اسم كولمبيا؟ بجانب ما يباع فيها من أشياء كانت سببًا في التحقيق.

مشاهد من قارعة الطريق

وفي برهة من الزمن سمعت صوتاً ينادي من الخلف، تردد صداه في دواخلي بسرعة البرق، وزادت نبضات القلب، فالتفت بسرعة، على أمل أن يكون المنادي هو كلمة السر التي تفكك طلاسم الظاهرة وتجلعني أشرع فعلياً في التحقيق، وبالفعل كان المنادي هو نفس الهدف، ولكنه كان مصادماً وطريقته لا تخطر بالبال وخاصة في هذه الغابة الإجرامية، التي تأخذ ملامح الاسم المستعار “كولمبيا”، مما جعلني أرتبك، وجسدي يرتجف، والسؤال حاضراً، وساورتني شكوك حول هويته وأيقنت أنه ينتحل صفة نظامي لأن النظاميين يحاربون هذه التجارة بلا هوادة، ولا يمكن أن يكونوا جزءاً منها فقال لي “أنزل وخذ طلبك واتفكك سريع”!

رسم المشهد

وفي تلك اللحظة دار صراع عنيف في دواخلي، بين أن أنزل وأذهب اليه وأشتري منه، وبين أن أغادر مسرعاً وأصحب معي براكين الغضب والحيرة والحسرة والأسى، والألم خوفاً من الدخول إلى عالم اللامعلوم فأخشى حينها أن يُساء المقصد وتصاحبني الشبهة داخل غابات كولمبيا المتشابكة، وبينما كان الرجل منتظراً ردي وأنا أنظر إليه بحسرة، ظنّ أن بضاعته غير مرضية بالنسبة لي فقال لي “أنا عندي الجديد والمخزن بعيد” وأخرج عدداً من الأصناف في يديه وعرضها لي: “فحينها قلت في نفسي انتهت الجولة،” وقلت له “منتظر زول تاني” وغادرت المكان، بعد أن كنت أنتظر فئة معينة ووجدت فئة أخرى قصرت أمامي الطريق، ووضحت اتجاهات المشهد، وتغيرت ملامح التحقيق بتعدد الفئات التي تمارس الظاهرة.

غرابة ودهشة

خطر في بالي أن أعود إلى الجانب الأخر من الكبري حيث منتزه الروابي، فنظرت إلى أمر آخر أكثر غرابة من سابقه، وتحديداً نظرت إلى “حافظة مياه” على جانب الطريق، فاقتربت منها فقدم نحوي طفل تبدو عليه علامات التعجب، وقد تجاوز عمره العاشرة بقليل، فقلت له “عندك شنو” فقال “داردمة” حينها ارتفع حاجب الدهشة، وخطرت على بالي أشياء كثيرة كانت مخيفة ولكنها كانت واقعية عقب جواب الطفل، فقلت في نفسي من الأفضل أن أحدِّثه بلغته حتى يشعر بالأمان لنجني ثمار الرحلة، فقلت له أنا كنت ببيع “الداردمة قبل الشتاء، والآن أبحث عن عمل” وأردفت بالحديث فكيف تعمل “الدرادمة في الشتاء” هل هناك زبائن لها، فضحك الطفل حتى ابتلت خدوده بالدموع، وقال لي “انت مسكين الما عرف بقول داردمة”.

مفاجأة غير سارة

فقلت له مسرعا “كيف يا صديقي” فقال لي “يا فردة ممكن تشتغل معاي وتطلع صرافاتك بمزاج” فقلت له مشفقاً “طوالي أشرح لي بس الشغل” فقال لي تجلس على جانب الكبري هذا، وسيأتي الجلابة إليك وتقف السيارات أمامك، والمشوار بي خمسين جنيه”، وواصل الطفل حديثه وهو يشرح لي أمر هذا المشوار وأضاف: “بقول ليك جيب لي “باسم”، ولمعلومية القارئ فإن مصطلح “باسم” وفقاً لقاموس هذه الفئة اللغوي يعني “رأس” ولكنه بالطبع ليس رأس ماعز أو شاه وإنما هو للأسف رأس “بنقو”. ويضيف الطفل: “أو نص أو ربع او مدوّرة” ومدورة هذه عزيزي القارئ تعني أصغر العرض، فهي للفقراء كما قال الطفل، ويختلف المبلغ الذي تحصل عليه وفق الطلب.

أساليب حديثة

حينها نظرت إلى الطفل ودموعي توشك أن تسيل إشفاقاً وحرقة، ولكني سارعت بمحوها بعد أن أرتبك فقلت له حتى لا يشك في أمري “إنك صديقي منذ اليوم” فقال لي “منذ اليوم إن أردت أن تبدأ العمل معي فمرحب بك”، حينها بدأت أنظر إلى هذا المشهد الذي تعددت زواياه فبعد أن كان الهدف المعروض فقط ومكانه، أضيفت إليه أساليب حديثة للتجارة واستخدام الأطفال في التجارة سيئة الذكر، ودخول فئة يعقد عليها الأمل كثيراً إلى عالم تجارتها.

عالم آخر

نسيت أن أقول لكم إن تشوّقي للدخول إلى فناء هذا العالم وهذه الإمبراطورية، لم أنس حجم المخاطر التي يمكن أن تلاقيني في الدخول إليها، ولذلك قمت من باب التحوط بتغيير ملابسي المعتادة، ولبست ما يحلو لهم لبعث الطمأنينة في أنفسهم، بيد أنني علمت لاحقاً أن هذا المجتمع لا يخشى أحداً أياً كان موقعه ووصفه، ودخلت بخطاوى مرتجفة في رحلة البحث عن الحقيقة.

في قبالة دولة الهوى “كولمبيا” الخرطومية، وجدت ثلاثة من الشباب يتوسطهم سبعيني، ولكن لا يبدو لك ذلك أن نظرت إلى بنيته الجسمانية، وبدأت أتحسس نظراته التي لم تغب عني وأنا على مشارف الدخول، فما إن وصلت إليه حتى ألقيت عليه السلام لكن ذلك لم يكن يعنيه في شيء بل سارع في عرض بضاعته وخيَّرني بين عدد من الأصناف، التي أقسم على أنها بضاعة جديدة دخلت إلى مملكتهم قبل ساعات من وصولي، حينها قلت في نفسي – ليتني كنت موجوداً لأعرف كيف تستوردون مثل هذه البضائع – وبدأ الضجر ينتاب العجوز، وقال لي مغاضباً وبمصطلحات لا تصلح أن تنشر في هذه المساحة: “داير تشتري ولا داير تتدلع” فقلت حتى لا يشعر بأمري ويكشف غايتي في تمليك القارئ حقائق هذه المملكة، قلت له: “أشوف السوق وأجيك أنا داير كمية”، حينها انشرح صدره فقال بثقة “أنا ملك كولمبيا خبرة خمسين سنة في المهنة لو لقيت أحسن من البضاعة دي أنا بديك حقها كامل وأعتزل التجارة”. حينها لوحت له ضاحكاً وقلت له باين عليك خبرة لكن خليني أتنور على السوق وأكيد حأجيك انت” فبادلني الضحكات وجلس في موضعه واقتحمت مملكة كولمبيا الخرطومية التي ستعلمونها في الحلقة القادمة، وما الذي حدث فيها.

الصيحة

‫4 تعليقات

  1. لا اله الا الله محمد رسول الله
    اتفق مع اخونا طارق في رايه

  2. الكاتب لم يأتي بجديد مثل هذه التجارة معروفة من زمن بعيد وحتي الجهاد المكافحة للأمر لا تهتم بالمروجين الصغار انما يكونون احيانا مصدر لمعاوماتهم للغبض الرؤوس الكبيرة هم التجار حتي البنقو ليس له اضرار كبيرة ذي باقي المخدرات المصنعة ولها روادها والبنقو له رواده .يعني موضوع لا يتستاهل كل هذة الدرامه دي وكل يوم بنسمع السلطات المختصه قبضت عربة محملة بالمخدرات و الهدف هو تجفيف المنبع .

  3. هذه إشارة انذار خطيرة جدا و نسال الله بأن يحمي الاطفال و الشباب و الشياب من هذا المرض الخطير مرض المخدرات ، و نتمنى من حكومتنا الرشيدة بأن تقضى على هذه الظواهر السالبة

  4. الحكومه الفاشله تعرف ذلك ولاكن حرصا منها على الهاء الشعب بعدم التفكير في حقوقه واهمالها المتعمد ليضيع الشعب والمواطن ليصل الي مايصل اليخ الان مع التعمد الحقييق لترك الامور بهذه الطريقه لانها ترى الشعب اقل من ذلك اما بالنسبه لاعتقالات بعض منهم لكي تري الشعب انها تقوم بما عليها فقط كذب في كذب واستهداف واضح من دكتاتورية و فساد النظام المستبد الحاكم