المراقب للمشهد المصري السوداني في السنوات الأخيرة لا يستغرب من التوتر المتصاعد في هذا الملف. رغم أن معظم القضايا المثارة الآن ليست وليدة اللحظة، لكن يبدو أن تصدر السودان -ممثلا في رئيسه البشير- للمشهد العربي ، رفع من وتيرة “حسد ” الجانب المصري و جعلهم يتفاعلون علنا بسلبية واضحة ليست فيها ذرة من دبلوماسية مما أدى لإثارة الرأي العام السوداني وتوحده بكل أطيافه-حتى المعارضة منها – ضد المصريين وضد ما هو مصري مما خلق نوع من المقاطعة غير المعلنة للبضائع المصرية والتي سوف تؤثر سلبا على إقتصاد مصر عاجلا أم آجلا .
ورغم أن السودان هو الواجهة الحقيقية الأولى لمصر على بوابة إفريقيا، لكن ” الفراعنة” لم يفلحوا في استثمار وضع السودان والاستفادة منه على كافة الأصعدة. فمصر لم تر في السودان وربما لا تزال ترى فيه سوى مجرد معبر لمياه النيل.
كانت البداية لهذا الانفجار هو تخلص السودان من الحليف المعزول دوليا – إيران- بعد عقود من التحالف مع الدولة التي رأت فيها حكومة البشير، بعد سنوات عديدة من استقبال كل الرؤساء الإيرانيين و تلقي مساعدات على شكل منح ومشاريع و قروض، مهددا لهوية دولة السودان السنية. فإيران هي تلك الدولة التي طمعت في السودان جغرافيا لقربه من المياه الإقليمية للملكة السعودية وسياسيا بوضعه تحت إبطها لفترة طويلة.
لذا فمن المعلوم أن قطع العلاقات مع إيران كان بداية انفتاح السودان تجاه اشقاءه في الخليج العربي بعد قطيعة طويلة و مواقف -غير جميلة- من تلك الدول ليس أولها منع البشير من عبور الأجواء السعودية و إرجاع طائرته و ليس آخرها مغادرة الوفد الإماراتي أثناء كلمة البشير في شرم الشيخ على هامش مؤتمر اقتصادي لدعم مصر.
ثم جاءت بعد ذلك حرب اليمن وشارك السودان بكل حفاوة في الحلف الذي تقوده السعودية في حرب أريد لها أن تكون سريعة لكنها ما فتئت تتمطى حتى أظن أنها لن تنتهي قريبا ، وهذا ما رآه الرئيس المصري الذي كان صغيرا حين شاركت مصر في حرب اليمن في الستينات و مني الجيش المصري بخسائر كبيرة، لذا تخوف السيسي من تجدد النزيف فرفض المشاركة علنا.
أتى بعد ذلك رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان، والمتوقع اكتماله في الشهر السابع من هذا العام ، والذي أضر وسيضر بمصالح مصر -التي لم ترحب وبل سعت لوقف هذا التطبيع – فمصر التي كانت تقوم باستيراد بعض السلع السودانية وإعادة تعبئتها ومن ثم تصديرها لأوروبا مما وفر لها عملة حرة من موارد لا تملك فيها شيئا . وبالتأكيد فإن فقدان تلك الموارد سيصيب الاقتصاد المصري بطعنة أخرى قد لا يحتملها جسد المواطن المصري الذي لا يدري من أين تأتيه المصائب!
من أكبر أسباب القطيعة بين السودان ومصر هي قضية سد النهضة بتداعياتها المعروفة وموقف السودان المشرف من خلال ترحيبه دوما لكل دولة باستثمار مواردها الطبيعية التي حباها بها الله ، بما لا يؤثر سلبا على الدول الأخرى وهو الموقف الذي أشعل النار في الجانب المصري الذي أراد من السودان أن يكون تابعا ويصفق بكفيه حين تتكلم مصر ويتبعها حيث تخطو من غير أي إرادة أو تفكير.
اتفاقية عنتبي هي أيضا نقطة خلافية كبرى بين البلدين ، فالسودان يعارض الاتفاقية بدرجة أقل مما تفعل مصر والموقف السوداني يرى ان الاتفاقية تحتاج لتعديل من إضافة وحذف بنود ، بينما ترى مصر أن النيل هبة لمصر وبالتالي لا يجوز لأحد أن يعتمد عليه غيرها رغم أن مصر هي من يبدد مياه النيل ويسيء استخدامها ويلقي فيها بالقاذورات . وكذلك ترى مصر أن اتفاقية النيل الجديدة إن اكتملت، ستعني حرمان مصر من حصتها الكبرى من مياه النيل ، فسياسة الاستخدام الرشيد التي تتبناها الاتفاقية تعني أن كل دولة يمر بها النيل أو روافده لها الحق في استخدام عادل بما يضمن رفاهية شعبها ،
وهي كلمة حق أريد بها باطل فكل الدول ما عدا مصر ، لا تعتمد على النيل وحده ، فالسودان مثلا يعتمد على النيل بما يعادل عشرة في المائة فقط من جملة استهلاكه المائي ولاتزال العديد من المشاريع السودانية و القرى تعتمد على مياه الأمطار وتخزينها بإقامة السدود و مشاريع حصاد المياه .
قضية حلايب وشلاتين أيضا قضية محورية وهي تيرموميتر العلاقة بين السودان ومصر ، فما ان تسمع عنها في وسائل الإعلام ، حتى تتأكد ان هناك خلافا يراد تأجيجه بإستخدام هذه الورقة . جدير بالذكر أن مصر تعلم أن حلايب وشلاتين سودانية مائة بالمائة وبالتالي فإنها لا تخاطر بقبول مطالب السودان بالذهاب للتحكيم الدولي لآن كل الخرائط الدولية والمستندات تثبت سودانية حلايب و حتى إحتلال مصر لحلايب كان نتئجة رد فعل لعملية اغتيال مبارك في التسعينات.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير فقد كانت قضية بسيطة جعل منها الإعلام المصري شيئا ضخما حين سمح لنفسه باستصغار شأن السودان حين قضت المؤسسات السودانية- المناط بها حماية المستهلك -بعدم صلاحية بعض الخضر والفاكهة المصرية التي اعترفت قنواتهم المصرية بريها بمياه ملوثة عقب ما حدث هنا في أمريكا حين أصيب عدد من المواطنين الأمريكان بأمراض نتيجة تناولهم فاكهة مصرية ملوثة ، و تم رفع دعوى قضائية ضد الشركة المستوردة وحظر استيراد الفاكهة والخضر من مصر . كل ذلك لم يغضب المصريين لكن حين يرفض الزول “الأسمر” تناول الفاكهة المصرية، فإنه يعتبر في حساب المصريين إهانة لهم فعلى شعب السودان أن يأكل ما يرسله لهم السيد المصري كيفما ما كان!
ثم جاءت المناورات السودانية السعودية في شمال السودان لتعتبرها مصر إشارة إنذار لها، فالحليف السعودي السابق، لم يعد يرى في مصر تلك الابنة المطيعة التي تستجيب لها وتدعمها سياسيا وعسكريا دوليا خصوصا في القضية السورية التي صرح السيسي بدعمه للأسد بينما تريد السعودية دعما مصريا وعالميا لإنهاء النزاع هناك وإلغاء فاتورة مساعداتها للمعارضة السورية.
وبذكر السعودية ، فإن استثمارات السعودية في شمال السودان وبالأخص الزراعية منها بدأت تقلق الحكومة المصرية التي ترى فيها انتقاصا من حصتها المائية ، فالسعودية لديها الإمكانيات العالية التي يمكن أن تحول شمال السودان من صحراء إلى أكبر مشروع مروي في السودان. كذلك السدود التي أعلنت السعودية تمويلها بالكامل في شمال السودان ، تشكل قلقا للجمهورية المصرية على الرغم من أن معظم هذه السدود تهدف للاستفادة من مياه الفيضان التي تذهب هدرا وتريد الحكومة السودانية تخزينها و الاستفادة منها في عملية الزراعة لخلق فرص عمل للشباب وتعمير الأرض البور.
ومعلوم أن الحكومة السودانية كانت قد دعت كل الدول الشقيقة-بما في ذلك مصر- للاستفادة من إمكانياتها الزراعية ودعمت تخصيص أراضي بمئات الآلاف من الأفدنة وبإعفاءات ضريبية كبيرة لسنوات طويلة وقد كان هناك نية لتوطين مليون مصري في شمال السودان للاستفادة من خبراتهم في الزراعة ، لكن عدم الاستقرار السياسي في مصر لم يسمح باكتمال ذلك المشروع والحمد لله .
شاءت مصر أم أبت، فإن السودان مقبل على نهضة كبيرة في السنوات المقبلة ، وقد كان بإمكان المصريين أن يستفيدوا منها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فالعامل المصري معروف عنه أنه يذهب لكل بقاع العالم للبحث عن عمل ، وهناك آلاف من العمالة المصرية قدمت للسودان أيام كان السودان يتمتع باقتصاد متزن قبل انفصال الجنوب.
على مصر أن تعلم بأن السودان هي الدولة الوحيدة التي لم ولن تتعد على أحد بل وتمارس ضبط النفس وتحافظ على علاقات جيدة مع الشعوب و الحكومات حين يرتضون مصلحة السودان . السودان الآن في إمكانها فقط أن توقع على إتفاقية عنتيبي ومن ثم تصبح الإتفاقية سارية وبالتالي مصر و أمنها المائي في خطر شديد. لكن للسودان مبادئ و لا يمكننا معاقبة شعب كامل بتصرفات إعلامه أو حكومته التي نحسب أنها لا تمثل الشعب المصري كله .
أيضا على مصر إعادة النظر في اعتبارية السودان والتخلي طواعية عن احتلال حلايب ، فالحرب في السودان على وشك أن تضع أوزارها وبالتالي ستتوجه الأنظار صوب حلايب وشلاتين من جديد. ورغم تفوق الجيش المصري في عدته على الجيش السوداني ، لكن الروح المعنوية للذي يريد أن يحرر أرضه دوما فوق كل الأسلحة.
ختاما لا يأمل أحد أن توجه بندقية المسلم في وجه أخيه المسلم، لكن احتلال أرضنا و السخرية من تراثنا و أهراماتنا ولون بشرتنا و طريقة كلامنا، يعني شيئا واحدا : للصبر حدود.
أحمد المبارك
الولايات المتحدة
13/4/2017
