الحداثة المتوحشة

من الملاحظ ان العنف في بنية الحداثة الغربية لا يحدّث بوصفه حدثاً استثنائياً، بل هو جوهر غار فى بنية الحداثة الغربية الفكرية وتجاياتها الإنسانية ا؛ كونه تعبير عن رؤية مادية كونية عدمية تعبير عن مركزية المادة وعدمية ما سواها؛ ليبدوا مفهوم «الوحشية» (Brutalisme) بوصفه منطقاً جوهريا للحداثة الغربية هو التعبير الدقيق عن جوهر الحداثة الغربية التي تسترق الجهلاء من ابناء مجتمعاتنا.

اذ الملاحظ في منتجات الحداثة الغربية انها تعبر عن شكل جديد من التدمير المُنظَّم للإنسان؛ مما يجعل منتجات الحداثة التدميرية للإنسان ليست عنفاً عرَضياً، بل نظام شامل لإدارة العنف من الحياة الي الموت، نظام شامل يؤدّي إلى تفكُّك الهوية الإنسانية والي انهيار المعنى الكوني للإنسان.

ففى عالم الحداثة المتوحش تتحول الحياة الإنسانية الى قفص، يعيش فيه الإنسان في عالم من التطويق والإنكماش؛ فالإنسانية تُحبَس داخل أنظمة المراقبة، والمجمعات المثنوعة ؛ والديون، والتوطين قسري، وإدارة تقنية للحياة، حيث يفقد الإنسان قدرته على الحركة الحرة والمعنى الكوني.

في الحداثة المتوحشة تتحول العولمة والنيوليبرالية والتقنية الحديثة، الي قوى تُعيد تشكيل الإنسان، لا باعتباره ذاتاً أخلاقية، بل كرقم، و كعبء، أو فائض مادي يمكن التخلُّص منه. لان العولمة النيوليبرالية لا توحّد البشر، بل تُنتج سلسلة من الهيمنات والابتزازات، فتتحوّل الأرض إلى مَورد مستنزَف، والإنسان إلى وظيفة اقتصادية أو عبء فائض.

وعندها تتحوّل السلطة الرأسمالية-التقنية-الأمنية إلى قوّة مادّية تدميرية تُعيد تشكيل الإنسان، والأرض، والزمان، والجسد، لا بوصفهم ذواتاً أخلاقية، بل كمواد خام قابلة للاستغلال، والتشذيب، والإحتجاز. الوحشية ؛ ويتحول الاقتصاد إلى صحراء قاحلة من الأرقام والإحصائيات والمعدلات الفارغة عن المعاني الأخلاقية.

في الحداثة المتوحشة يتحول نظام الحُكم السياسي الى أداة لاحتكار العنف، وعندها تصبح الأرض، والجسد، والهوية القومية، والحدود موادَّ قابلة للهندسة السياسية والإستغلال والإحتجاز والاستعمار الحديث؛ عندما تكسر قيمة الأرض والجسد والحدود الأخلاقية، وتفكك وحدة الجسد والأرض: فالجسد يُحتجز ويُشذّب ويُدار أمنياً. والحدود تُعاد هندستها عبر الجدران، المعسكرات، ومراكز الاحتجاز. واللجوء والنزوح ؛ وبذلك ضاعت الإنسانية داخل أقفاص المراقبة، والديون، والخوف، والهويات المغلقة، وأصبح العالم أكثر قسوَة على رغم من ادّعائه العقلانية والديمقراطية والحرية والتقدُّم. وبالمحصلة إنسان مقهور، منفي داخل عالمه.

في الحداثة المتوحشة تتحول الروحانية الحديثة الي ضدّ الهوية والفطرة الإنسانية؛ وإلى أشكال باطنية مظلمة، إذ تُستبدَل المعاني الأخلاقية بالهوس، والقلق، واليوقا والتنمية البشرية وبؤس الإنسان. وتتحلِّل معاني الرجولة إلى عنف رمزي وجسدي. فالجسد الانساني يُختزَل فى الجنس ويتحول إلى مادة استهلاك ، وبيع وشراء واعلانات تسويقية وتجارة الدعارة واستثارة لذة جديدة ومصطنعة للشهوة، ورغبة وشهوة منصوعة بلا علاقة اخلاقية او حتى عاطفية، ما ينتج مجتمعات مأزومة حسياً وأخلاقياً.

ولكن هل يمكن تصوُّر إنسانية اخرى محتملة تتجاوز الوثنية الجديدة (عبادة المال، التقنية، الجنس؛ الدولة)؟ اننا هنا نقترح الانسانية التوحيدية الاخلاقية كسياسة ومعاني حياتية للكائن الحي، قائمة على المعنى وعلى التوحيدية الكونية وعلي الاختلاف، والانفتاح، والقدرة على قول الحقيقة في عالم . كون أنّ أزمة العالم ليست اقتصادية أو سياسية فقط، بل أنطولوجية: أزمة في المعنى ومعنى المعني في أن نكون بشراً.

محمد المجذوب

Exit mobile version