(4) رمضان .. المفاصلة التي هزّت عرش الإسلاميين (9)
يرى أكثرية المراقبين لمشهد وتداعيات المفاصلة السياسية ما قبل وبعد قرارات رئيس الجمهورية في الرابع من رمضان الموافق للثاني عشر من ديسمبر عام 1999 م التي أعلن فيها حالة الطوارئ بالبلاد وحل البرلمان، أن ما استعر بين (القصر) و(المنشية) لم يكن يعدو (صراعاً حول السلطة)، وقد يكون ذلك صحيحاً بنسبة ما، ولكن هل سأل هؤلاء المراقبون وأولئك المحللون أنفسهم: هل كانت السلطة غاية عند الطرفين أم وسيلة؟
بالنسبة لي، فإن الشيخ “الترابي” كان يسعى لمنح البرلمان سلطات أوسع لمراقبة ومحاسبة الجهاز التنفيذي مع فسح المجال واسعاً للحزب الحاكم لقيادة العمل السياسي، ولكن لم يكن مبلغ همه الاستمتاع بنعيم السلطة، واستغلال صولجانها، والتقلُّب في مباهجها، والذين كانوا يعرفون “الترابي” عن قرب أو حتى عن بعد، يعلمون أنه لم يكن يوماً مشغولاً بجمع المال وكنز الثروات وحيازة الأراضي والعقارات.. إطلاقاً. بل إن الشيخ في أحد حواراتي معه عندما سألته عن مصدر دخله خلال سنوات المعارضة والسجن في عهد (مايو)، لم يكن متحرِّجاً أن يشير إلى زوجته السيدة “وصال المهدي” التي ورثت عن أبيها الإمام “الصديق” ما أعانته به وأسرتها الصغيرة عند النائبات.
السلطة عند ” الترابي” ظلت وسيلة لتحقيق مشروعه السياسي وتطبيق أفكاره، بما في ذلك ما تهامس به وكتبه البعض عن رغبته المكتومة في منصب النائب الأول للرئيس عندما أضيف اسمه لاسمي “علي الحاج” و”علي عثمان” في قائمة سلِّمت للرئيس “البشير” لاختيار أحدهم نائباً، عقب استشهاد النائب الأول الأسبق “الزبير محمد صالح”.
كان ” الترابي” يعمل على فتح الأبواب للحريات العامة وإعادة الديمقراطية وفق منظور جديد، وهو ما عبّر عنه في قانون (التوالي السياسي) الذي أجازه البرلمان في العام 1998م. وقد كانت الصحافة مزدهرة وأكثر انتشاراً وحرية في زمن ” الترابي”، ولم يكن لها (رواجع) تُحمل بالدفارات، لأن الصحافة تتعافى حسب مساحة الحرية المتاحة لها.. ونحن نحمد لزعماء كبار مثل الراحل “الترابي” والإمام “الصادق المهدي” احترامهم وتقديرهم المطلق للصحافة والصحفيين .
كان “الترابي” يكافح من أجل المزيد من الانفتاح، غير أن تلاميذه في الطرف الآخر كانوا يرون أنه متعجل، وأنه يغامر بالدولة التي اقتلعوها عنوة وحرسوها بالدماء، وأن أي انفتاح سياسي يعني ضياع المشروع وعودة حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي للسلطة.
لم يكن “الترابي” يهاب الديمقراطية، ولا يخشى الانتخابات، ويكفي أنه قاد حزبه الوليد (الجبهة الإسلامية القومية) المحارَبة والمحاصَرة من جميع قوى انتفاضة (رجب – أبريل) 1985م، لدخول البرلمان بحوالى (53) مقعداً، لتشكل المعارضة ضد حكومة ائتلافية بقيادة السيد ” الصادق المهدي”.
خلاصة الصراع أن الشيخ أراد الانفتاح أكثر بعد مرور نحو (9) سنوات من شمولية (الإنقاذ) القابضة، بينما أراد مخالفوه من قيادات الحزب والحركة الإسلامية مزيداً من الزمن لترسيخ مشروعهم و(تمكين) حزبهم وحركتهم ثم الانفتاح من بعد ذلك.. هذا أصل ومنتهى الخلاف.
وكان “البشير” مستعداً للتنحي والتنازل عن السلطة، ولكن قيادات إسلامية مهمة أثنته عن القرار، وبالتالي لم يكن الطرفان في تلك الفترة، مفتونين بالسلطة لذاتها ومتاعها، ولكنهما اختلفا حول توجيه دفة (المركب) يميناً أم يساراً.. شمالاً أم جنوباً، ولكلٍّ رأيه ورؤيته.
لعب الأستاذ “علي عثمان” دوراً محورياً في ترجيح كفة الرئيس لتدون له السلطة، ويفارقها الشيخ معارضاً عنيفاً، متزعماً حزباً جديداً (المؤتمر الشعبي)، فعاد للسجن حبيساً مرات ومرات، وعانى ما عانى هو وكوادر حزبه، من التضييق والمراقبة الأمنية والحصار السياسي والاقتصادي أكثر مما عانى الشيوعيون والبعثيون وبقية أحزاب المعارضة.
بعد المفاصلة، واستقرار الأمر للمؤتمر الوطني بوجهه الجديد، يقود أمانته العامة البروفيسور ” إبراهيم أحمد عمر”، ظل هاجس (المفاصلة) يسيطر على قيادات الدولة، فأمعنوا في إضعاف الحزب والبرلمان، حتى لا يقوم للرئيس (ترابي جديد)!!
بعد حين .. ألغوا منصب الأمين العام للحزب، واستبدلوه بنائبين لرئيس الحزب؛ أحدهما للشؤون السياسية والتنظيمية، والثاني للشؤون التنفيذية (النائب الأول في القصر).
وقد يبدو غريباً للبعض أن الذي رشّح الدكتور “نافع علي نافع” لمنصب نائب رئيس الحزب بعد اعتذار ” إبراهيم أحمد عمر”، هو” علي عثمان محمد طه ” وليس غيره، أقول ذلك في سياق ما تنامى بعد (نيفاشا) عن مفاصلة جديدة مكتومة بين “علي” و”نافع”، وما يزال البعض يريد لطقسها أن يبقى حتى بعد أن تقاعد الرجلان عن الفعل التنفيذي بالدولة!!
حرص “علي عثمان” طوال سنوات شغله لمنصب النائب الأول أن يبدأ خطاباته الجماهيرية في الولايات بجملة: ( أبلغكم تحايا الأخ الرئيس) .. رافقت الأستاذ “علي عثمان” في رحلات كثيرة ضمن وفود رؤساء التحرير إلى جنوب وشرق دارفور .. شمال وجنوب كردفان.. البحر الأحمر .. والشمالية .. ورافقته إلى”جوبا ” و”واو” و”فلوج” في جنوب السودان، وظل “علي عثمان” يبلِّغ الجماهير تحايا السيد الرئيس بينما لا يفعلها غيره بذات الحرص والتبجيل، ولا شك أن ذلك كان يمثل أهم تعبير عن استمرار (عقدة) المفاصلة.
نواصل غداً.
الهندي عزالدين – شهادتي لله
صحيفة المجهر السياسي