الطيب مصطفى

أيها الممانِعون.. خذُوا العبرة من حيدر إبراهيم؟ (2)


ختمتُ مقال الأمس بالقول إن المعارض الشرس حيدر إبراهيم أقرَّ أخيراً وقبل أن يختِم حياته وعمره الطويل.. أقرَّ بأن البديل الذي ظلَّ يدعمه لا يختلف عن (الشيطان) الذي كان يرجمه، وذلك بعد أن استعرضتُ بعضاً من مقولاته بما في ذلك اعترافه المدوِّي بأن: (فرضية جدل المركز والهامش وهُمٌ كبير، فنحن أمام الهامِش النوباوي وهو يحارِب الهامش الدينكاوي أو الجنوبي وليس الجلابة أو تحالف الهمباتة الخيالي).

ثم واصل قوله: (إن الصراع في السودان ليس إثنياً ولا جهوياً بل هو صراع اقتصادي اجتماعي قد يلبس أحياناً أقنعة ثقافية)، ثم أهال حيدر الترابَ على مشروع السودان الجديد بعد أن فنَّده وأوسعه ضرباً وركلاً.

أقول إن اعترافات أحد أساطين اليسار وأكثرهم عنادًا و(كجاراً) ينبغي أن يسوق الممانعين من القوى السياسية المعارضة بمن فيهم حملة السلاح إلى تخفيف مواقفهم المتطرِّفة في مواجهة القوى السياسية الأخرى التي ظلوا يناصبونها العداء.

قرأتُ قبل ذلك مراجعات ناقدة للكاتبة المعارِضة رشا عوض تسير في ذات الاتجاه الذي سلكه حيدر إبراهيم، فقد ظلّت رشا تتمرَّد من حين لآخر على كوابح العزة بالإثم التي تصد المعارضين عن تجاوُز الخطوط الحمراء التي نصبوها سدوداً من نار تعوق حرية تحرّكهم نحو الآخر المشيطن، كما ظلت تخرج بشجاعة فائقة إلى فضاء الانعتاق من أسر (الدوقما) لتقر بأن من ظلّت تساندهم من رفاق السودان الجديد وأهل الهامش لا فرق بينهم وبين من ظلّت تكيل لهم السباب بالليل والنهار .

أهم ما في هذه المراجعات الفكرية التي تبتدرها بعض نُخب اليسار من منافيهم الاختيارية أنها ترد أهلها إلى شيء من الواقعية وتجعلهم يخفِّفون من عدائهم لمن ظلُّوا لا يرون فيهم إلا شيطاناً مريداً، فنحن على سبيل المثال ظللْنا ننتقِد من موقع المعارضة أخطاء الأداء التنفيذي وكل مظاهر الفساد ونطالب بالحكم الراشد ودفعْنا في سبيل ذلك فواتير باهظة الثمن، لكننا كُنا في ذات الوقت ننتقِد بزفرات من نار خطل توجُّهات المعارضة المسلحة والمتحالفين معها، كما كُنا نسائل مشروعية حملهم السلاح بعد أن رأينا آثاره الكارثية على الوطن والمواطن، فماذا جنى من رفعوا السلاح بعد كل سنوات الاقتتال المرير، غير تقتيل أهليهم وتشريدهم وتدمير بلادهم والتسبُّب في تخلُّفها وإشانة سمعتها بين العالَمين، بل ماذا فعلوا بعنادِهم غير منحهم الشرعية لنظام الإنقاذ الذي اتخذ حربَهم المسعورة مبرّراً منطقياً للتضييق على الحريات؟

ما أصدق قول الشاعر :

لعَمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق

فقد والله العظيم أنهكْنا وعطَّلنا، جراء ضيق أخلاق الرجال، بلادَنا المأزومة، وها هو حيدر إبراهيم يصل إلى ما ظللْنا نُدندِن حوله أنه لا خير في المواقف المتطرِّفة من الطرف الآخر الذي ثبت له بطلانها وخطلها سيما بعد انفجار الحروب الأهلية التي طالت محيطنا الإقليمي ودمّرته تدميرًا.

موقف حيدر لا أشُك أنه راوَد كثيرين عجِزوا عن اقتحام عقبة هوى النفس الأمَّارة بالسوء، وعن كسْر ذلك (التابو) اللعين فهلَّا انتصروا على أهوائهم وتحرَّروا من القيد الذي كَبَّلوا به أنفسَهم؟

لا أستثني أحداً من الممانعين، فوالله إن التغيير والإصلاح المتدِّرج أفضل مائة مرة من استخدام السلاح الذي رأى الجميع ما أحدثه من موت وتدمير وتخريب وتشريد وتعطيل لمسيرة الوطن.

إني لأخاطب كُلاً من السيد الصادق المهدي وجبريل ومناوي وعمر الدقير وإبراهيم الشيخ، بل إني لأخاطب فاروق أبوعيسى الذي جمعتْني به جلسة واحدة يتيمة في محكمة تصالَحنا فيها بعد خصام.. أخاطبُهم جميعًا بأن هلّموا إلى التوافُق والتقارُب لإنفاذ مخرجات حوار نثق أنها كفيلة بنقل بلادنا خطوة خطوة إلى بر الأمان.

لقد دخلنا المجلس الوطني وأُقسم بالله أني وجدتُ ما لم أكُن أتوقَّعه، فقد كنتُ قبلها أرى فيه مجرّد تابع للسلطة التنفيذية (لا يهش ولا ينش)، ولطالما كتبتُ هذه العبارة في زفراتي الحرّى وأستغفر الله الغفّار الرحيم، فقد كنتُ أسلقه بألسنةٍ حِداد، لكني وجدتُ شيئاً مختلفاً، فقد لمسنا دوراً رقابياً حقيقياً يستدْعي السلطة التنفيذية ويسائلها ويوجهها الأمر الذي يتيح لنا إنفاذ مخرجات الحوار، بل ويمكن من إحداث التغيير نحو المسار الديمقراطي الذي نبتغيه.. لا أقول إن البرلمان يمارِس ذات الدور الذي تمارِسه البرلمانات الديمقراطية لكن العافية درجات ونحن نتحرَّك إلى الأمام.

أود أن أسأل كل هؤلاء الذين أوردت أسماءهم.. أما كان وجودهم في البرلمان سيكون أكثر جدوى من معارضتهم خارج الأجهزة الرقابية أو التنفيذية؟

لقد كتبتُ مُخطِّئاً نفسي وحزبي بعد أن رجعنا للحوار أني لو استقبلتُ من أمري ما استدْبرت لما جمّدنا الحوار ذلك أن استمرارنا في الحوار كان سيدعم الأوراق المقدّمة من المؤتمر الشعبي حول ورقتيْ الحريات وقضايا الحكم واللتين تتناولان أهم القضايا التي ظلّت محل خلاف بين الحكومة وبين جميع قوى المعارضة.

بمثلما أحدثْنا هذه المراجعة لموقفنا السابق، وبمثلما فعل حيدر إبراهيم فإننا نطلب من القوى السياسية أن تتحلَّى بالشجاعة اللازمة لكي تكُف عن مسيرة الانتحار البطيء أو انتظار المجهول الذي لا يعلم مآلاته إلا الله العزيز الحكيم.

لقد طوى الموتُ عدداً من قيادات المعارضة، وأرى شبحَه يحوم حول كثيرين اقترب بهم قطار العمر من محطته الأخيرة فهلَّا اقتحموا العقبة وقهروا أنفسهم من أجل وطنهم استجابةً لحكمة مجرَّبة تقول: (إن التاريخ يصنعه الخارجون على القانون)؟

History is made by those who break the law

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة


تعليق واحد

  1. لا تظنن أن هذا سيحدث يا باشمهندس , هؤلاء مكابرون ولن يرجعوا ولن يراجعوا أنفسهم , حتى حيدر هذا ما أظنه تراجع بنفس التفسير الذي ذكرته , ولن تحصل له , والله أعلم , حتى تلك التي حصلت لفرعون ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) !! وأنت تعلم أنه عند انفراط عقد الاتحاد السوفييتي ( العظيم ) وذهاب ريحه بعد أكثر من سبعين عاما من التغني بالاشتراكية العلمية ونظرية فائض القيمة , والكثافة في الإنتاج والعدالة في التوزيع , وما إليها من هذه الكواريك التي لا يزال يهذرب بها المنظرون عندنا, بعد فشل كل ذلك قالوا :قالوا إن الفشل راجع إلى التطبيق وليس إلى النظرية !! ولذلك ستظهر إليك بعد قليل رشا عوض ( وهي بالمناسبة محمودية جمهورية وليست شيوعية ) وستقول لك إنك فهمت كلامي بطريقة خاطئة , سوء فهم !! وليس تراجعا ولا علامات رجوع !