حسن مكي : للأسف الشديد العقل الجنوبي لا يعرف الدولة
بدا الخبير في الشأن السياسي والإستراتيجي، بروفيسور حسن مكي، متشائماً من مسار علاقات دولتي السودان، مستقبلاً، لا سيما في ظل التحركات الخارجية وراء الكواليس، مشدداً على ضرورة كنس عوامل عديدة تعترض مسار البلدين في تكوين علاقات صحية ومعافاة.
ونوه مكي في حواره مع (الصيحة) إلى انتفاء الدولة في الجنوب الذي قال إنه بات محكوماً بالقبائل واللصوص الدوليين، (حد تعبيره) فيما اشار الى أن الشمال يعاني من تراجع الإنقاذ لمرحلة اللاحزب.
خلال هذا الحوار يشرّح مكي علاقات البلدين بعد ست سنوات من انفصال الجنوب في 2011م مع تلمس إمكانية تصفية القضايا محل الخلاف، علاوة على التطواف على قضايا ذات الصلة كقضية الفارين من أتون الحرب في الجنوب وتستضيفهم الخرطوم.
حوار : الطيب محمد خير
· ما تقييمك للخسائر والمكاسب بين دولتي السودان بعد ستة أعوام من انفصال الجنوب في العام 2011م؟
– نبدأ بالجنوب الذي فقد عقله السياسي كله بفقده لدكتور جون قرنق، حيث باتت الأمور في الجنوب متروكة للقادة العسكريين وتقديراتهم، ما جعله –أي الجنوب- فاقداً للدولة والمجتمع المدني، والتركيبة الموجودة والمسيطرة فيه هي القبيلة أو العشيرة فقط.
· لماذا فشل الجنوبيون في تأسيس دولة رغم انحيازهم لهذا الخيار بنسبة 99%؟
– للأسف الشديد العقل الجنوبي لا يعرف الدولة، وبالنسبة للنخب فإن اللغة الغالبة هي الإنجليزية فيما يتحدث عامة الشعب اللغة العربية، الأمر الذي خلق تعددية لغوية وأثنية وجغرافية، ضف إلى ذلك عقد الجنوب التاريخية من الشمال وتدخل الإرساليات التبشيرية بمختلف الطوائف المسيحية في تراب الجنوب.
· بماذا نسمي القائم حالياً في الجنوب وما هي فرص تأسيس الدولة؟
– الجنوب عندما هجمت عليه فتنة السلطة والمال، انصرف بكلياته عن فكرة الدولة إلى تحصيل الغنائم التي انشغل بها جداً، ما أدى إلى الحروب القبلية وتعزيز الأنانية الشخصية، وهذا أدخل الجنوب كله في مرحلة اللاعودة إلى سابق عهده، لأن الجنوب الذي كان في الأذهان ما قبل الانفصال كياناً واحداً، لم يعد موجوداً حالياً. الموجود الآن هو جنوب القبيلة، جنوب النوير، جنوب الدينكا والإستوائيين.
وتحول الجنوب لمسرح للتدخلات السياسية الدولية، لذلك قلت الجنوب الذي في ذهننا والذي نحاول التعامل معه هذا غير موجود الآن. هناك جنوب جديد قائم على القبائل وحكومات اللصوص الدوليين والمحليين الذين يحاولون سرقة ثرواته.
· بذات القدر، كيف تنظر للدولة في الشمال بعد ستة أعوام من الانفصال؟
– الشمال القديم لم يعد موجوداً بعد أن فقد كثيراً من أراضيه، وفقد تبعاً لذلك (90%) من الغطاء النباتي و(26%) من الثروة، وكذلك صورة الإنقاذ التي في ذهننا منذ العام 1989 غير موجودة، والذي نراه الآن بقايا حزب وسلطة، لأنه بعد خلافات 1999 بين الإسلاميين، وقادت إلى خروج الترابي وما تبع ذلك من انشقاقات وسط الكتلة التي قام عليها انقلاب 1989، أفرزت عدداً من الكتل والأحزاب وأحالت عدداً من الإسلاميين للمعاش، وأعتقد أن عدداً من الإسلاميين وكبار زعماء الإنقاذ دون تسميتهم ماتوا سياسياً يوم مات د. جون قرنق والمأتم كان ما حدث في انفصال الجنوب.
· لكن لا تزال الشعارات موجودة وحية؟
– الشعارات الموجودة الآن هي بقايا سلطة وحزب كما أشرت لك انفاً، ورفعها ليس شرطاً بأنك تفكر في القضايا الكبيرة، انظر لما يحدث حتى في كرة القدم حالياً، ومشكلة صغيرة يمكن أن تحل في يوم واحد لو كان هناك عقل سياسي، ولكن هاهي تنتهي بتجميد كامل النشاط الكروي، وأبعاد الفرق السودانية عن سجل المنافسة إقليمياً وعالمياً، وهذا نتيجة عدم وجود العقل السياسي الذي انعدمت معه القدرة على اتخاذ القرار.
· إذن ما المطلوب في هذه الحالة؟
– المسألة السودانية تحتاج حالياً الى تجديد بقايا السلطة والحزب وبقايا المعارضة –كذلك- وحتى الشركاء في السلطة الآن هم بقايا معارضة لأن رموز المعارضة الأساسيين غير موجودين؛ إما في خارج السودان أو في شتات المهجر أو لزموا بيوتهم مثل الصادق المهدي.
· ما الكيفية التي يمكن أن يملأ بها الفراغ الذي أشرت اليه؟
– يمكن لأي شخص أن يملأ هذا الفراغ، فقط أن يتمتع بالثقة لدى المجموعة التى كانت حاكمة وأصابتها الشيخوخة.
· بمعنى؟
– يعني يمكن لهذا الشخص المنتظر منه أن يملأ الفراغات بأن يتمدد، ويسيّر الأمور، لأن هناك فراغ سياسي وفراغ تنظيمي وفراغ حزبي وحتى فراغ اجتماعي. وهذه هي الصورة الماثلة الآن في السودان الشمالي.
· حديثك يعني انعدام أرضية صالحة لقيام علاقات جيدة ومستقرة في كلا الدولتين؟
– فرضية استحالة قيام العلاقة الجيدة ليس لكونها قائمة كون أن (فلاناً) موجود أو (علاناً) غائب، ولا لسوء النية وإنما تكمن الاستحالة في عدم وجود كيانات راسخة وقادرة على المتابعة خاصة في الجنوب. لا كيان المعارضة الذي مثله في مرحلة ما د. رياك مشار قادر على أن يكون كياناً سياسياً يمكن أن يقيم دولة، ولا كيان الحكومة الذي مع سلفاكير ميارديت. وآخر بقايا الخمسة الذين قادوا حركة التمرد في بدايتها جميعهم قتلوا ولم يتبق منهم إلا سلفا كير وهو الآن فاقد للسيطرة على الجنوب.
· ما هو رأيك في الاتفاقات التي تم إبرامها بين الدولتين وما سبب انهيارها المتكرر؟
– للأسف التعويل أصبح على الحل الخارجي من المنظمة الحكومية للتنمية (إيقاد) وقبلها اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا – 2005) والدول الموجودة فيها ليس من بينها أي دول عربية، وكلها دول مسيحية تستمد تفويضها وشرعيتها من الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الترويكا (الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج)، لذلك تجد هناك هرولة باتجاه رفع العقوبات، ومحاولة حثيثة للتقرب لأمريكا، لذلك ستظل هذه اتفاقيات أقامها الآخر.
· إلى أي مدىً القوانين السابقة صالحة للتعامل في الوقت الراهن؟
– هذه القوانين تظل موجودة لأنها تستمد شرعيتها من الآخر المتحكم في العالم.
· ما رأيك في تضارب القرارات الخاصة بالتعامل مع الجنوبيين الموجودين في الشمال تارة تكون كمواطنين وأخرى تقول يعاملون كأجانب ومرات كثيرة كلاجئين؟
– الرئيس عمر البشير وجه بأن يعاملوا كمواطنين من البداية، وليست هناك أي جهة (مجلس الوزراء أو خلافه) يمكن أن يقف أمام توجيهات الرئيس الذي له الحق في أن يقرر ما يراه مناسباً. لكن آمل ألا يكون المواطنين ضحايا للاتفاقيات الماضية، ويجب أن يكون التعامل معهم وفق المواثيق والاتفاقيات الدولية والمصالح المشتركة والرؤية الجيدة لمستقبل السودان.
· كيف تقرأ وجود أمريكا داخل الجنوب وربطها لحل القضايا السودانية بمساهمة الخرطوم في العمل على استقرار الجنوب وصولاً لتحقيق السلام؟
– الوجود الأمريكي في القضية السودانية يمثل معضلة خلقناها بأنفسنا ونتحمل مسؤوليتها وندفع ثمنها اليوم، بل ونسعى لحلها برفع العقوبات الاقتصادية الذي أصبح هدفًا إستراتيجياً للدولة التي تعمل على إبراء نفسها من تهمة الإرهاب وهذه ما كان سيحدث إن كان هناك عقل سياسي قادر على الرؤية والمناورة ويملك قدراً على تفهم الوضع المحيط.
· ما السبيل إذاً لإنهاء الاتهامات المتبادلة ودفن الأحقاد السابقة، وهل هناك إمكانية للوصول لبناء جدار قوى من الثقة بين الدولتين؟
– الإمكانية للوصول لذلك متوفرة وتبدأ بتصحيح الأوضاع في الشمال نفسه، بأن يصبح قادراً على حل مشاكله. لكن السودان الذي يفشل بكل ثقله السياسي والاجتماعي في حل مشكلة متعلقة باتحاد الكرة يصبح غير مؤهل لحل المشكلات الكبيرة، هذا مع أن السودان بكل ثقله السياسي والاستراتيجي قادر على الوصل لبناء الثقة، إن شاء الله.
· هل يمكن أن تأخذ قضية أبيي مساراً آخر يتسم بالهدوء كما هي عليه الآن بعد خروج (أولاد أبيي) من حكومة دولة الجنوب؟
– هذا يعتمد على بروز عقل سياسي في الشمال قادر على التعاطي مع قضية أبيي والمنطقتين (النيل الأزرق وجنوب كردفان) وهي جميعها قضايا أمنية عسكرية مختلطة بقضايا سياسية اجتماعية لذلك حلها يحتاج، لمدد روحي وسياسي بحسبان أنه لا يمكن معالجتها إلا في إطار منظومة سياسية، وليس ضمن منظومة أمنية عسكرية.
· كيف تنظر للإصرار على حل القضايا الاقتصادية بين الدولتين في طي القضايا السياسية؟
– هذا بالتأكيد أضر بمصالح المواطنين في كلا البلدين، الدولة في الشمال غير مكترثة، هذا مع أن الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب وفي ظل ظرف ثلاثة أشهر فقط خلقت (300) ألف وظيفة. الحكومة السودانية الجديدة (حكومة الوفاق الوطني) حتى الآن لم تخلق ولا وظيفة ولا أتوقع أن تقدم جديداً للسودانيين على مستوى الاقتصاد لعدم وجود خيال وقدرة على خلخلة الواقع، وإذا أنت عجزت عن تحريك الاقتصاد ليستجيب للضغوط الداخلية والميزانية تتحدث عن (50) ألف وظيفة فكيف تستطيع خلق أرضية اقتصادية عابرة مع الجنوب؟
· ما هي توقعاتك لزيارة سلفا كير المرتقبة، بالنظر إلى الترتيبات التى ستتم لها عبر لجان فنية تمهد للزيارة بخلاف ما حدث في الزيارات الست السابقة؟
– أتوقع أن تحقق هذه الزيارة نجاح نسبي، لكن في النهاية السودان فيه ازدواجية عجيبة في حل القضايا، فإذا كان الآن في قضية الأطباء تجد أن الاختصاصي يتحصل راتباً مقداره ألفا( اثنان) جنيه بينما النائب العام مرتبه (8) آلاف جنيه أي أـربعة أضعاف مرتب الاختصاصي. ولذا أنت لا تستطيع حل مشكلات العلاقة بين الجنوب والشمال إن لم تحل مشاكل الازدواجية الحاصلة، وغيرها من المشكلات. وإن أنت كنت عاجزاً عن حل مشاكل الداخل فلن تستطيع حل مشكلة العلاقة بين الشمال والجنوب، وبمعنىً ثانٍ إن كنت عاجزاً عن حل مشاكلك في البيت هل ستكون قادراً على حل مشاكل جيرانك. لذلك ستظل القضايا العالقة موجودة طالما استمر هذا هذا الوضع الذي حدثتك عنه، قائماً وماثلاً.
الصيحة
التنافس على اسوء الجيران على اشده بين المصريين والجنوبيين