تحقيقات وتقارير

النظام الصحي في السودان.. نظرة مستقبلية


البروفيسور مأمون محمد علي حُميدة*
أبرز ما قاد إلى نجاح إصلاح النظام الصحي بالخرطوم أيلولة المستشفيات الاتحادية للإدارة الولائية فالثنائية أضرت بالخدمة الطبية
النظرة المجزأة للخدمات الصحية في السودان هى التي قادت إلى تبعثر وتشتيت الجهود رغم ضخامة الصرف على الصحة بنسبة دخل الدولة والفرد
قامت ضمن الإستراتيجية الإصلاحية مستشفيات كبيرة في أطراف الولاية ذات مقدرة عالية في التشخيص والعلاج والأداء فانطلقت هذه المستشفيات وبتطويرها المتفرد تحول بعضها إلى مستشفيات تقدم خدمات تخصصية دقيقة

=========
يظل الاهتمام بالصحة موضع اهتمام الأفراد والمجتمعات والحكومات والطريق الأسهل لكسب قلوب المواطنين. وعالمياً تجد الصحة اهتماماً بالغاً من المنظمات العاملة في المجال وغيرها من المنظمات التنموية والطوعية. فالصحة قيمة في حد ذاتها ولكن كل الأبحاث الحديثة تؤكد أن بلوغ الصحة على مستوى الفرد هو أقرب الطرق لدحر الفقر. وتقوية النظام الصحي ومقدرته للتجاوب السريع لاحتياجات المواطنين هو في الأساس تقوية للنظام الاقتصادي. فتقليل الوفيات والأمراض تقلل الضائع من ساعات العمل والأصحاء هم الأقدر على الإنتاج ودفع عجلة التنمية. قديماً عرف الإنسان أن الأمراض لا تعرف الحدود الجغرافية أو السياسيىة، فوباء الإيبولا الأخير في غرب أفريقيا والذي انتشر من غينيا إلى كل الدول المجاورة (ليبيريا، سيراليون، ونيجيريا) انتقل بسرعة إلى أوروبا والولايات المتحدة وما ذكرى وباء الإنفلونزا الأوروبية (1917) والتي راح ضحيتها الملايين في القرن الماضي ببعيد والذين ماتوا بوباء الإنفلونزا في ذلك العهد أكثر من الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى والثانية.
العولمة التي استفادت منها أوروبا وأمريكا في رسم الموجهات العالمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتمت على هذه الدول الاهتمام بالصحة لسببين الأول حماية لمواطنيهم من نقل الأمراض النازحة إليهم والمنتقلة عبر الأجواء وعبر الأشخاص المهاجرين شرعياً ومتسللين.
السبب الثاني أن الدول المانحة استوعبت تماماً أن لا تنمية عمرانية وتكنولوجية في دول العالم الثالث إلا على أساس التنمية الصحية وخلق كوادر عاملة خالية من الأمراض قادرة على العطاء.
الأهداف التنموية في العالم Millennium Development Goals))، والتي وافقت عليها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر 2000 (قرار رقم 70/1) وأصبحت ملزمة للدول الأعضاء وآخذة في الاعتبار احتياجات الدول وطموحها وتقوم على مفهوم شامل للتنمية وتشمل أهدافاً اقتصادية بيئية واجتماعية مع التركيز على العدالة في توزيع الخدمات والاهتمام باستئصال أسباب الفقر وأهمها المرض. النظرة الشمولية للصحة لا تعني بالمرض في الأفراد فقط ولكنها تهتم بالعافية وحماية المواطن من الإصابة بالمرض وتمتعه بلياقة بدنية ونفسية وحياة اجتماعية سعيدة ولا تختزل الصحة في تشخيص المرض وتقديم العلاج. بمعنى آخر أن المفهوم الشامل للحياة الصحية تترابط فيها العوامل وتتداخل بحيث يستحيل أن تمنع حدوث الأمراض إلا بالاهتمام بالجوانب الحياتية المختلفة من ماء للشرب وصرف صحي آمن وغذاء مغذٍ ومفاهيم مجتمعية متقدمة ، وتخلص من النفايات بأنواعها وبالأحرى الوضع الاقتصادي للدولة والمجتمع.
وما تعلمناه من تجربة الأهداف التنموية والتي انتهى العمل بها عام 2015 أن نهتم بالنظام الصحي الوعاء والهيكل الذي تقدم فيه الخدمة الصحية وقائية وعلاجية بشمول وغير تجزئة.
النظرة المجزأة للخدمات الصحية في السودان هى التي قادت إلى تبعثر وتشتيت الجهود رغم ضخامة الصرف على الصحة بنسبة دخل الدولة والفرد. قيام المستشفيات الكبرى والتركيز عليها والحج إليها من جميع أنحاء الولاية طلباً للعلاج مهما كانت شدة المرض أو بساطته رفعت سعر الخدمة المقدمة للدولة وللأفراد وأمام الطلب المتزايد على هذه المستشفيات المرجعية والتي عجزت عن النهوض بواجبها لأن المطلوب من الأطباء علاج الأمراض البسيطة غير المعقدة وتلك التي تتطلب معينات تشخيصية متقدمة فارتفعت ميزانية الصحة مع غياب الأثر الواضح الإيجابي على المواطن وليس أدل على هذا أن تكلفة علاج المريض الواحد في مستشفى الخرطوم تضاعفت إلى عشر مرات مقارنة مع علاجه في مستشفى طرفي ولنفس المرض وبنفس الكفاءة.
راعني في بداية عملي بالوزارة أن معظم النساء الحمل يلدن الولادة الطبيعية في مستشفى الخرطوم آتين من أطراف الولاية وبعضهن من الأقاليم لتدخل طبي يمكن أن يتم بسلام تحت إشراف قابلة في منزل الحامل وليس مستشفى مرجعي!
الاهتمام العالمي بالصحة وكيفية تقديمها للمواطنين أدى إلى تجارب عديدة حول العالم في أيها طريقة وايسرها وأكثرها استدامة فالمعلوم أن هيئة الصحة العالمية التي أنشئت عام 1948 وبعدها تكونت الهيئة القومية للصحة البريطانية (National Health Service قد سبقتا العالم المتحضر في التفكير في توفير الصحة للجميع وقد قامت مؤسسات أكاديمية وخدمية وإستراتيجية عديدة لتضع الأسس لتقديم خدمات الصحة حتى الأدبيات متوفرة في مجال إنفاذ برامج صحية فاعلة بأقل تكلفة مستدامة ومتوفرة ، وقد تبنت هيئة الصحة العالمية نظاماً صحياً مبنياً على المدرجات الثلاث، رعاية صحية أولية – ثانوية ثم مرجعية استشارية وقد أثبتت الأبحاث في اقتصاديات الصحة أن استدامة الخدمات الصحية وتطويرها لا بد أن يراعي تكلفة الخدمة والعمل على خفضها بتوزيع الخدمات على المواطنين كل حسب حاجته واحتياجاته الصحية مؤمنين على التوزيع العادل الذي يضع الفقراء وهم الأكثر تعرضاً للمرض والأقل مقدرة لدفع تكلفة العلاج في أولويات الخطة ، فالتوزيع العادل ليس توزيعاً بالتساوي ولكنه توزيع حسب حاجة المواطن ومقدرته.
لعل من أبرز ما قاد إلى نجاح إصلاح النظام الصحي بالخرطوم هو أيلولة المستشفيات الاتحادية للإدارة الولائية فالثنائية أضرت بالخدمة الطبية خاصة وأن الصرف على ما هو اتحادي لقربه من منبع المال أعلى بكثير منه على المؤسسات الولائية مما أضاع المال العام وأضعف الخدمات الصحية وخلق مركزاً يُدعم مالياً ويلقى خدمة طبية جيدة وأطراف محرومة من أساسيات الصحة ، فالكشف على الحمل أو التطعيم أو حتى معالجة الإسهالات والالتهاب الرئوي أصبحت تحوّل للمركز كما كان يحدث في مستشفى جعفر بن عوف ومستشفى الخرطوم وقد ظلت الأعداد الكبيرة التي كانت ترتاد المستشفيات الكبيرة المركزية ومعظمها بأمراض مقدور عليها في مستشفيات الخدمة الثنائية تتسبب في ضياع المرضى ذوي الأمراض المعقدة والتي تحتاج إلى معينات تشخيص واستشاريين متفرغين للحالات المعقدة وزادت على أثر ذلك الميزانيات وحوافز بعض العاملين دون الآخرين الذين يعملون نفس هذا العمل في مستشفيات طرفية.
وقد اعتمد في المستشفيات الكبرى حينها نظام بريطاني اسمه استقلالية الإدارة في المستشفيات في ظل مديرين غير متخصصين في الإدارة ويعملون في وظائفهم التخصصية جراحة كانت أو باطنية وأحدث هذا مفارقات في الحوافز وزيادة كبيرة في العمالة إذ تُرك لهذه المستشفيات حق التعيين فوصلت العمالة في مستشفى الخرطوم إلى خمسة آلاف عامل وموظف بطاقة 800 سرير مشغول منها ما بين 60-70% وما ينسحب على هؤلاء من حوافز وعدم المقدرة الإدارية للمستشفيات على تتبع الحضور والغياب حتى أن “نقاش” نقل بعد الإصلاح الصحي إلى رئاسة الوزارة أنكر المطالبة بحضوره يومياً لأن هذا يتعارض مع عمله في السجانة!
وفي أول خطوات ما بعد الأيلولة تحولت آلية صرف المرتبات إلى المركز للتأكد من أن من يصرف هو على رأس العمل وبالتتبع الدقيق تبين أن 3975 وظيفة (موظف/عامل) في 18 مستشفى، رغم وجود الأسماء على الورق لا وجود لهم في واقع العمل.
هذا الحديث لا نسوقه انتقاداً لأحد أو اتهاماً لوزارة بالتقصير ولكن هذه المستشفيات الكبرى ورثت نظاماً صحياً قديماً والمحاولات الجادة لإصلاحها كانت متجزئة ولم تضع التصور الأكبر في الولاية ككل لتقاطع الصلاحيات الاتحادية والولائية وقوة هذه المستشفيات إدارياً ونقابياً وتاريخياً.
المستشفى مؤسسة تقوم في منطقة جغرافية محددة ، فالمستشفيات الاتحادية بعد قانون الحكم اللا مركزي أصبحت معزولة عن باقي المؤسسات التي تقدم لها الخدمة، من مياه وكهرباء وحراسة وتنظيم للشارع وجمع للنفايات وتصديق للمنشأة وخدمات مساعدة كلها آلت إلى السلطة الولائية. فالحديث عن تقييم الأيلولة يجب أن ينظر إلى الدعم الكبير الذي قدمته الولاية لتطوير المستشفيات في ظل ميزانيات الولاية مقارنة مع الميزانيات التي كانت تقدمها وزارة المالية الاتحادية قبل الأيلولة والتي استمرت كما هى عليه منذ عام 2008 رغم الزيادة في تردد المرضى على هذه المستشفيات إلى 300% وأن أكثر من 60% من المرضى الذين يستفيدون من خدمات هذه المستشفيات من الولايات مما يضع مسؤولية الصرف على هذه المستشفيات على وزارة المالية الاتحادية سواء تدفقت هذه الميزانية عبر وزارة الصحة الاتحادية أم كانت دعماً مباشراً للولاية لإدارة هذه المستشفيات.
وقد قامت إستراتيجية إصلاح النظام الصحي على الأسس المعروفة والتي بنيت على :
1- الاهتمام بالرعاية الصحية الأولية.
2- إنشاء مستشفيات العناية الثانوية وهي المدرج الأعلى من المراكز ويتم تحويل المرضى لهذه المستشفيات.
3- تحويل وتقوية مستشفيات المركز لتصبح مرجعية استشارية ، يحوّل إليها المرضى ذوو الحالات المستعصية والتي تحتاج إلى معينات تشخيصية واستشاريين ذوي تخصص دقيق وزيادة عدد المراكز الصحية وتحويلها إلى مراكز طب الأسرة بتدريب أطبائها لنيل درجة ماجستير/دكتوراة طب الأسرة وهذا التحوّل جعل منها قبلة للمواطنين دون المستشفيات حتى وصل عدد تردد المرضى في مركز واحد كالضو حجوج بأمدرمان إلى 8000 مريض في الشهر، وهو نفس العدد الذي سجلته مستشفى الخرطوم قبل تحويلها لمستشفى مرجعي وتجد في هذا الكتاب تفصيلاً أكثر عن هذه الخطوة المهمة في إصلاح النظام الصحي.
قامت ضمن الإستراتيجية الإصلاحية مستشفيات كبيرة في أطراف الولاية ذات مقدرة عالية في التشخيص والعلاج والأداء المهني كمستشفى الجزيرة إسلانج ، السروراب في الريف الشمالي وترفيع مستشفى النو إلى مستشفى خدمة ثانوية وأم ضواً بان في شرق النيل وتقوية مستشفى الأكاديمي وإبراهيم مالك بالخرطوم وتأهيل مستشفى أمبدة النموذجي ومستشفى الراجحي في السلام محلية أمبدة – فانطلقت هذه المستشفيات وبتطويرها المتفرد تحول بعضها إلى مستشفيات تقدم خدمات تخصصية دقيقة.
ثم تم تطوير المستشفيات المرجعية كمستشفى أحمد قاسم للقلب وزراعة الكلى، مستشفى المخ والأعصاب في إبراهيم مالك مع زيادة ملحوظة في مستشفيات الطوارئ والإصابات والعناية المكثفة.
لم يكن الأمر سهلاً لأن تقادم ما اعتاد عليه الأطباء والعاملون وما نتج عن فوائد مادية وحوافز من النظام القديم والخوف من التغيير والتشكك في نوايا القائمين على أمر الإصلاح وخوف البعض ممن يحسب عليهم الحفاظ على النظام القديم – أدى إلى ثورة عارمة ضد الإصلاح ولكن الثبات على ما هو أنفع للناس أدى إلى النتائج الباهرة والتقدم الذي لا تخطئه العين السليمة الذي نشاهده اليوم.
صاحب هذا الجهد جهداً موازياً في الصحة الوقائية ومكافحة الأمراض المنقولة عبر الحشرات وتأهيل للمشارح وتدريب العاملين في مجال الصحة.
رغم أننا نرى أن كل هذا الجهد في طور التطوير للأحسن إلا أنه نال رضا المواطنين الذين عبّروا عن هذا الرضا في صور مختلفة يجدها القارئ في هذا السفر.

الصيحة


تعليق واحد

  1. هذا الوزير اظن واللة اعلم انسان بلا ضمير بل تنعدم فية الاخلاق تماما لانة حارب الطبيب والمريض وحارب الخدمة الصحية بل المسؤول الاول عن تدهور الصحة في السودان ارني انسان او مريض او طبيب لم يدع علية
    انة رجل ابدع في عذاب المواطن وتفنن في ظلم الطبيب لك يوم حين لاتنفع زينة ولا زيتونة ولا بلدوزر
    ايها المستثمر ربنا يورينا فيك ايام
    انت ومن معك