تحقيقات وتقارير

مع سياسة التعويم الجزئي للبنك المركزي وتوقعات بمزيد من الانخفاض! كيف يمكن تفادي الغرق؟


تراجع الجنيه السوداني بصورة سريعة أمام العملات الأجنبية وفي مقدمتها (الدولار)، حيث وصل إلى حدود (25) جنيهاً، يأتي ذلك مخيباً لآمال كانت معقودة على تأثيرات فك الحصار الاقتصادي الأمريكي على البلاد، بل إن سيناريوهات أسوأ متوقعة لحالة (الجنيه) المرضية، مما يدفع للبحث عن (روشته) علاجية سريعة وفعالة، بعد أن تسبب هذا الوضع في زيادة الأسعار وضرر فادح على المواطنين أغنيائهم وفقرائهم.
ويرى خبراء اقتصاديون استطلعتهم (اليوم التالي)، أن الإجراءات الإدارية لا تصلح للسيطرة على سعر العملات الأجنبية مقابل الجنيه، مطالبين الدولة بأن تكون المعالجة بوسائل اقتصادية تتم عن طريق تدخل البنك المركزي في إدارة سعر العملة وبتغيير السياسات المالية والنقدية حتى تستوعب تحريك مسار الإنتاج وكذلك الاهتمام بتحويلات المغتربين، والحوافز التشجيعية لها وتعديل سياسات الذهب.
البرنامج الخماسي:
يشير محافظ بنك السودان السابق والاقتصادي المعروف، محمد خير الزبير، في حديث لـ(اليوم التالي)، إلى أن البرنامج الخماسي للدولة قد حدد خارطة الطريق لتحقيق استقرار سعر الصرف، موضحا ذلك في زيادة إنتاج القمح والسكر والبترول والأدوية بالقدر الذي يؤدي إلى إحلال الإنتاج المحلي محل استيراد هذه السلع خلال العامين القادمين المتبقيين من البرنامج الخماسي عام (2018-2019)، وزيادة صادرات الذهب والثروة الحيوانية والقطن بشقيه والصمغ العربي زيادات ملموسة بتطبيق سياسات مالية ونقدية حازمة تستهدف ثلاث نقاط هي: خفض التضخم إلى رقم أحادي عن طريق التحكم في عجز الموازنة، وخفض الواردات بإجراءات غير إدارية وخاصة الواردات غير الضرورية، وتحويل مسار تحويلات العاملين بالخارج تدريجيا من السوق الموازي إلى السوق الرسمي، بحيث تقوم المصارف والصرافات بتحديد السعر يوميا وفقا لعوامل العرض والطلب .
بينما يرى رجل الأعمال سعد العمدة أن المخرج من أزمة ارتفاع الدولار يكون بزيادة الإنتاج والإنتاجية والصادرات وتقليل الواردات.
ويتفق معه في الرأي رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان، علي محمود، الذي قال لـ(اليوم التالي)، إن موضوع ارتفاع سعر الدولار سيناقش غدا في البرلمان.
وقد تواصلنا مع عدد من المصادر المختصة بالشأن الاقتصادي، لكن البعض منهم أبدى تحفظه من الحديث في الموضوع منهم عبد الرحيم حمدي الذي قال: “لا أعرف الأسباب ولا علم لي”، رغم أن حمدي معروف بآراء حول هذه القضية تحديدا، فهو من أبرز الذين نبهوا في المنابر بأن (الدولار) سيقفز إلى أرقام فلكية في ظل السياسة الاقتصادية الحالية، ويذكر في هذا الصدد أن حمدي ما يزال يوصف بـ(عراب) سياسة التحرير الاقتصادي، وهو أيضا ليس بعيدا عن (ديسك) الاقتصاد في حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
السيناريو الأسوأ:
الخبير الاقتصادي الدكتور صدقي كبلو بدأ حديثه متحسرا، وقال إنه غير سعيد بنبوءته في ما يتعلق بارتفاع سعر الدولار، وأضاف: عندما قدمت الموازنة العامة للدولة تنبأت بشيئين هما ارتفاع معدل التضخم وارتفع خلال شهر يناير إلى الآن، وقد صل إلى (34 %)، الأمر الثاني متعلق بالانخفاض في سعر الجنيه والذي سيستمر، وتوقعنا ارتفاعا كبيرا في الدولار حتى يصل (25) جنيهاً، وعندما حدث الانخفاض أيام رفع الحظر رأينا أن هذا انخفاض مبني على توقعات خاطئة لمن لا يعرفون الاقتصاد الدولي، ويعتقدون أنه بعد رفع العقوبات ستهطل مطرا، ولكن الذي حدث هو أن هبط الدولار ثم استعاد ارتفاعه. ويرى كبلو في هذا الخصوص أن الدولة لا تعالج المسألة الأساسية، معتبرا أنها مهتمة بتوفير الدولار وليست مهتمة بأوضاع الجنيه.
ويضيف كبلو: أن توفير الدولار في خزانة الدولة، عملية صعبة في ظروف الدولة الحالية وفي ظروف سياستها بالعرض، موضحا أن عرض الدولار غير مرن، لأنه يعتمد على الصادرات، وهي تعاني من تدهور بدأ من تدهور صادرات البترول وتدهور الصادرات الزراعية بشقيها، ورغم ظهور الذهب لكن لا توجد سياسة تجعل صادر الذهب يكون بديلا كما البترول قبل انفصال الجنوب.
ويقترح كبلو للخروج من هذا المأزق، قيام شركات قابضة مثل شركات البترول سابقا، لتتعامل مع الشركات الأخرى، وهي التي تشاركها لتدخل نقدا أجنبيا على السودان، فقامت وزارة المعادن بإنشاء شركتين، لكن كبلو يبدو متشككا في الدور الذي تقوم به الشركتان التابعتان للمعادن، عازيا ذلك لعدم تعامل الحكومة بشفافية، وليس معروفا ماذا في العقود مع الشركات الأجنبية في مسألة التعدين سواء كان ذهبا أو غيره من المعادن.
مسؤولية المركزي:
يرى الباحث الاقتصادي الدكتور عادل عبدالعزيز، أن الإجراءات الإدارية لا تصلح للسيطرة على سعر العملات الأجنبية في السودان، ويوضح أن الإجراءات الإدارية مقصود بها المتابعات الأمنية لتجار العملة ومحاولات الحد من هذه التجارة بهذه الطريقة. ويقول عبدالعزيز لـ(اليوم التالي) إن المعالجة تكون بوسائل اقتصادية وتتم عن طريق تدخل البنك المركزي في إدارة سعر العملة، لأن الأسلوب المتبع في السودان هو نظام الصرف المرن المدار.
ويؤكد أن مسؤولية الإدارة تقع على بنك السودان، وعلى هذا يقترح عبدالعزيز أن يقوم بنك السودان بعدد من الإجراءات الاقتصادية التي تمكنه من التعامل مع سعر العملة داخل السودان، ومن ذلك أن يسعى مع وزارة التجارة لتوسيع دائرة السلع التي يمنع استيرادها، وأن يوجه المنافذ الجمركية بعدم تخليص أي بضاعة أو سلع إلا بإثبات تحويل مبلغ الاستيراد عبر الطرق الرسمية، وأن يعمل مع السلطات النقدية في دول المهاجر على تشجيع المهاجرين والمغتربين عبر المنافذ الرسمية بسعر مجزٍ.
وينصح عبدالعزيز، الحكومة بضرورة استيراد القمح والمواد البترولية بواسطتها ومن مواردها، وأن تسعى البلاد لاستقطاب قروض طويلة المدى لدعم ميزان المدفوعات.
ويؤكد عبدالعزيز أن هذه الإجراءات يمكن أن تحجم لحد كبير التجارة في الدولار، ويتبقى بعد ذلك إجراءات على مستوى الاقتصاد الكلي تنفذها وزارة المالية والوزارات المختصة لزيادة الإنتاج والصادرات لتحقيق إيرادات من العملات الأجنبية تكون احتياطيا لدى بنك السودان يمكنه من التدخل في سوق العملة لخفض الارتفاعات غير المعقولة، حسب معادلات الاقتصاد السوداني.
العودة لسياسة الكوتة:
ينبه (كبلو) إلى أن الحكومة لا تستطيع منافسة تجار السوق الموازي، ويقول إن الحل يكمن في حظر الاستيراد إلا عبر توريد نقد أجنبي في البنوك، قائلاً: “نحن نافسنا أنفسنا بالبضائع الأجنبية ونكسر اقتصادنا”، مشيرا إلى أن هذا يرفع سعر الدولار لأن سعر العملة المحلية لا يتحدد في الخرطوم بل يتحدد في الأسواق التي يوجد بها سودانيون عاملون بدول الخارج.
وفي ما يختص بالجانب الخاص بالطلب وكيفية لجم الحاجة المتزايدة على الدولار، يرى كبلو ضرورة العودة إلى سياسة رخص الكوتة في التجارة الخارجية للاستيراد بالتحديد، وأن تحدد السلع المسموح باستيرادها والكمية المطلوبة. وأردف: “لا يوجد في العالم اقتصاد اسمه اقتصاد سوق، فأي سوق لديه قوانينه وتؤثر عليه من خلال السياسات المالية والاقتصادية وبإجراءات إدارية، وهذا ليس عيبا”.
ويؤكد “كبلو” أن الحكومة لن تستطيع أن توحد سعر الصرف بين السعر الرسمي والموازي، لأن تجار السوق الموازي يستطيعون أن يدفعوا أكثر مما تعرض البنوك، ويضيف: “من الممكن أن تغري الدولة السودانيين العاملين بالخارج بتحويل ما لديهم عن طريق البنوك الرسمية، فنظام الحافز لابد أن يكون حقيقياً”.
وختم كبلو حديثه بأن إصلاح النقد الأجنبي وسياسته هو جزء من إصلاح اقتصادي وسياسي كبير.
تعديل سياسات الذهب:
يدعو الخبير الاقتصادي، محمد الناير الحكومة، إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية سريعة وعاجلة، مشيرا إلى مطالبة الاقتصاديين بقرارات متزامنة مع قرارات الإدارة الأمريكية تتلخص في الحوافز التشجيعية لتحويلات المغتربين مثل “سيارات” معفاة من الجمارك مقابل تحويل مبلغ محدد بالنقد الأجنبي عبر القنوات الرسمية للدولة، لكنه يعتقد أن الحكومة لم تستجب لهذه النصائح.
ويرى الناير أنه لا خلاف حول الأثر الذي يحدث من زيادة الإنتاج والإنتاجية وزيادة الصادرات وإحلال الواردات وتهيئة المناخ للاستثمار لخلق استقرار مستدام بالاستفادة من القرار الأمريكي، لكن الأمر المهم أيضا اتخاذ إجراءات لمعالجة فورية على المدى القريب.
الأمر الثاني حسب الناير هو أهمية تعديل سياسات الذهب، موضحا أن بنك السودان لديه خياران، إما أن يضيق الفجوة في السعر بين الـ(50 %) التي تسلمها الشركات المصدرة للمصفاة ويكون سعر المصفاة قريبا للسوق، أو إلغاء هذه السياسة والسماح للشركات بالتصدير بالكامل (100 %)، وبالتالي فإن الحصيلة تأتي خلال عشرة أيام للمصارف السودانية وتوجه للاستيراد، معتبرا أن من شأن ذلك أن يجعل سعر الصرف في السوق الموازي في حدود (16-17) جنيهاً مقابل الدولار، مما يضيق الفجوة ويجعل السعرين من الممكن أن يتساويا.
تغيير السياسات المالية:
رئيس غرفة المصدرين وجدي ميرغني يقول لـ(لليوم التالي)، إن الحل الوحيد للنهوض بالاقتصاد هو زيادة الإنتاج والصادرات، ويضيف أن هذا البرامج يحتاج لزمن حتى تظهر نتائجه على أرض الواقع، موضحا أن كل السياسات موضوعة في هذا الاتجاه، لكن عامل الزمن هنا هو المهم أيضا.
ويشير ميرغني إلى أن الآثار الإيجابية لرفع الحصار تحتاج لزمن حتى تفعل، ويقول هذه مرحلة انتقالية بين الفترة السابقة والقادمة، معربا عن أمله في أن تكون قترة عابرة.
ويدعو ميرغني إلى إحداث تغيير في السياسات المالية والنقدية حتى تستوعب تحريك مسار الإنتاج والاستفادة من التغيرات والانفراجات الخارجية. ويقول إن اتحاد المصدرين وضع برنامجا يحمل خطة طموحة للتصدير والمساعدة في توفير الدولار، ولكنها خطة مشروطة بتوفير المعينات العامة للتصدير من التمويل وتخفيض الرسوم، وقدم البرنامج للقطاع الاقتصادي. لكن وجدي يشير إلى بعض النقاط ما تزال تحتاج لتوضيح ومزيد من التداول.
ويبدي وجدي استعداد غرفة المصدرين للالتزام بالبرنامج المقترح، داعيا الدولة إلى الاستمرار في برامج دعم الإنتاج والتركيز عليها وتحفيز الصادر، وقال هذه المسائل تحتاج لزمن يجب أن نستمر فيها حتى تأتي بمردود.
مدخرات المغتربين:
وفي إطار الحلول المطروحة لمعالجة أزمة انخفاض الجنيه، يقول كرار التهامي الأمين العام لجهاز تنظيم شؤون العاملين بالخارج، إن استقطاب مدخرات المغتربين سيعمل على سد الفجوة في عجز الموازنة، ويضيف بعد ذلك يبدأ تحريك الإنتاج والتركيز على الإنتاج السلعي وليس الخدمات، ثم مراجعة الإخفاقات الموجودة، ويجزم التهامي بأن نجاح الدولة في جذب مدخرات المغتربين وتمويل الصناعات الصغيرة والشراكة في استثمارات المغتربين على طريقة دول أمريكا اللاتينية شراكة ثلاثية يسمونها (واحد في ثلاثة) بين المركز والولاية والمغترب، موضحا أن من شأن ذلك أن يكون بمثابة الرافعة لبقية المكونات الاقتصادية وسيحرك عجلة الإنتاج كلها، لكن ذلك يحتاج لإرادة وتفكير جريء خارج الصندوق والتفكير بعقلية السوق والعرض والطلب وليس بأي دوافع أخرى.
ويضيف التهامي: “لا يعقل أن يكون الصادر من الصمغ العربي في حدود الثمانين ملياراً، وكذلك بقية المنتجات مثل صادر اللحوم والسلع الأخرى التي يتمتع فيها السودان بميزات تفضيلية”، مشيرا إلى أن الصادرات أقل من الطموحات الاقتصادية وأقل من الفرص الحقيقية المتاحة للاقتصاد السوداني، فإذا كان صادر الحيوان لدول الخليج في حدود الـ(500) مليون دولار يزيد أو ينقص، نجد أن دولة مثل البرازيل تصدر لذات المنطقة أكثر من مائة مليار سنويا من منتجات اللحوم والدواجن لنفس الأسواق، بينما نحن الأقرب لهذه الأسواق، ونملك الأرض والمياه، داعيا إلى تغيير في الرؤية حتى يصل الصادر إلى المستويات المطلوبة.
ويرى التهامي أن الاهتزاز الأخير في أسعار الصرف وتصاعد الدولار، غير منطقي، ويرى أنها زيادة تحت السيطرة، عازيا هذا الوضع إلى مضاربات تجار “السوق السوداء” الذين يعملون ضد اتجاه التيار، بسبب تحكمهم في العرض والطلب لما يملكون من احتياطات سرية، لمقاومة التوجه الطبيعي لسعر الصرف، ويعتقد التهامي أن “تجار السوق السوداء” أحجموا عن البيع وبدأوا في عمليات شراء مفتعلة.
لكن التهامي يؤكد على أن الدولة تمتلك النفس الطويل وهي بالتالي لديها قدرات أكبر من تجار السوق الموازي، وعلى الحكومة أن تستعيد أنفاسها وتسدد ضربة قاضية للسوق الأسود مثل ما حدث في مصر تماما بعد التداعيات السريعة والزيادة اليومية في سعر الصرف، حيث استطاعت الحكومة هناك إحكام السيطرة وتجريد السوق الأسود من أسلحته.

اليوم التالي.


تعليق واحد

  1. افتحوا للمغتربين يدخلوا سياراتهم من غير تحديد للموديل وجمارك تكون معقولة والسداد بالعملة الصعبة وشوفوا كان ما ينزل الدولار ويقع فى الواطة هذا هو الحل السريع اما وما كلها حلول طويلة الامد وعندما تأتى اكلها تكون البلد ضاعت .