(الدموع) تبلل (جبيل الطينة) ود الجبل.. (إنكسر المرق.. واتشتَّت الرصاص)!
لم تكن الحركة كالمعتاد داخل تلك القرية (جبيل الطينة) الوادعة الساكنة، ولم يكن الغادون إليها من أهلها فقط؛ بل كانوا زوَّاراً أتوا من كل حدب وصوب، تمدد الجميع على أطرافها ومداخلها بعد أن وصل إلى مسامعهم الخبر الأليم وذلك بعد أن غيب الموت فجر الأمس بالمستشفى التخصصي بالمملكة الأردنية الهاشمية ابنهم وابن قريتهم رجل الأعمال المعروف ورجل البر والإحسان بابكر حامد موسى الشهير بـ(ود الجبل) وذلك بعد صراع طويل مع المرض حيث ذهب للأردن مستشفيا ليقرر الأطباء بتر قدمه نسبة لمرض السكري الذي يعاني منه ليمكث بعدها في المستشفى وقتا طويلا لقضاء فترة من النقاهة تحت إشراف الأطباء إلا أن المنية عاجلته أمس السبت.
(1)
لم تكن قبيلة الجموعية تلك القبيلة الكبيرة والممتدة وحدها صاحبة المصاب الجلل بل كان الجميع بمختلف قبائلهم ومناطقهم يغمرهم الحزن الشديد على فراق الراحل الذي يعتبر (ركازة) وطنية وسنداً للمحتاج ويداً بيضاء ممدودة بالخير. النساء ظللن يَجُبْن شوارع القرية حتى البيت الكبير والدمع يملأ أعينهن و(يقالدن) زوجته ورفيقة دربه وأم أولاده، تلك المرأة الصابرة القوية التي كسا الحزن ملامحها وأنهك المرض جسدها لتكتفي بالبكاء وتارة النظرات وهي جالسة دون حراك، فيما ملأ صوت بكاء أبنائه المكان ولا أحد يستطيع أن يُصبِّر الآخر، فكلهم في الحزن شركاء.
(2)
امتدت خيمة العزاء على أوسع المساحات وهي تستقبل المعزين من الأهل والأقارب والأصدقاء، الذين لم يكفوا عن البكاء رجالهم وشبابهم وحتى أطفالهم، وهم يرددون (فقدنا ركازة القبيلة). كان موقفا صعبا للغاية بالنسبة لهم، كل ملامح قرية (جبيل الطينة) مسقط رأس الراحل تحكي عن أياديه البيضاء وسخائه اللامحدود والذي تمثل في المستشفى الذي شيده والنادي الذي وضع لبناته حتى اكتمل والمدرسة التي جمعت كل أبناء المنطقة ليدرسوا فيها والمآذن والكثير الكثير ما يدل على بره بأهله قبل الآخرين.
(3)
من داخل صيوان العزاء التقت (السوداني) بعدد من أقاربه، من بينهم الأستاذ ياسر محمد أحمد، باعتباره أخاً ووالداً وصديقاً، وقال “إنهم يسألون عنه إذا تأخر، وإنه قام بإنشاء كثير من المدارس والجوامع، وكان يشارك دوماً في الأعراس الجماعية والإصلاح بين الأفراد والقبائل، وكانوا يلجأون إليه في كل الأوقات والجموعية يفتخرون به قدم لأهله الكثير ومنطقته وللحكومة”. من جانبه تحدث خال الفقيد الأستاذ خليل صديق الفحل قائلاً: (وفاة ود الجبل فقد جلل للسودان فقد كان يكفل أكثر من 29 ألف أسرة تحت مسمى الأيادي البيضاء بالتأمين الصحي ومن بصماته مستشفى جبيل الطينة وطريق الجموعية أم درمان وطريق الجموعية جبيل الطينة التريس ومدرسة الأساس البنات ومدرسة ثانوية وأكثر من 114 مسجداً في الريف، وإنجازات لا تُحصى، نسأل الله القبول وأن يلزمنا الصبر الجميل).
(4)
يعتبر رجل الأعمال الراحل بابكر (ود الجبل) من رجال البر والإحسان في السودان ويتضح ذلك في مواقفه الإنسانية المختلفة ودعمه المستمر للفقراء والمساكين وكفالة الأيتام فيما تجده حاضراً بتبرعه المادي السخي الذي عرف به في كل مكان احتاج إليه، بينما لم يكن اهتمام الراحل بدنيا المال والأعمال فقط بل كان محباً للثقافة والرياضة والفن ومجتمعه، الأمر الذي جعله يُكوِّن صداقات كبيرة إذ تجده دوماً حضوراً في المنتديات والليالي التي تُقام بالعاصمة ويكون هو ضيف شرفها بجانب دعمه المادي المستمر، فيما كان الراحل مُحباً لأغنيات السيرة والحماسة وذلك بحكم ثقافة منطقته التي تشرَّب أهلها على حب الغناء وضربات النوبة والنحاس التي تجعله على الدوام يهز بعصاه وهو يعرض بجلبابه الناصع البياض.
(5)
بصوت ونبرة حزينة تحدث لـ(السوداني) وزير العدل السابق والقانوني والدبلوماسي عبد الباسط سبدرات قائلا: (الآن يصعب الحديث عن هذا الفقد الكبير ليس من الهين أن أوفيه حقه وليس لديَّ ما أقول الآن سوى أنني فقدت صديق العمر، إنه صديق بمعنى الكلمة بالنسبة لي ولمنطقته وأهل السودان، لقد كان هرماً، وكل مأذنة تتحدث عنه وآبار المياه والمدار والمستشفيات والزكاة التي كانت تُوزَّع للكثير من الفقراء والمساكين) مختتماً: (لقد إنكسر المرق وإتشتت الرصاص).
(6)
كان الراحل من أكثر المداومين على حضور الليالي الفنية والثقافية التي تقام بمنتدى النادي العائلي وتبنى من خلالها تكريم عدد من الفنانين والموسيقيين والشعراء. ويذكر مدير المنتدى الأستاذ شنان حسونة أن الراحل كان بصدد تكريم الفنان حسين شندي، وتم الاجتماع معه بخصوص التكريم داخل النادي وكأن أكثرهم حماساً، إلا أن ظروف مرضه حالت دون ذلك، ليتم تأجيل التكريم بعد عودته من رحلته الاستشفائية من الأردن.
(7)
عدد من الفنانين والفنانات عددوا مآثر الفقيد، ووصفوه بالكريم والمجواد وصاحب القلب الأبيض من بينهم صديقه الفنان القلع عبد الحفيظ الذي قال: (علاقتي بالراحل امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً، ولم أعرف عنه سوى الكرم والجود والسماحة والمحنَّة، وكثيراً ما كان وسيطاً لحل خلافتنا أنا والفنان كمال ترباس، كان لا يحب الخصام وفي آخر محادثة لي معه بدولة الأردن أخبرني أنه بخير واكتملت عافيته إلا أن الموت كان أقرب إليه والفقد كبير بالنسبة لنا ورغم ذلك لا شيء ينفع غير الدعاء له بالرحمة والمغفرة).
(8)
الكاتب الصحفي والمدير العام لصحيفة الدار الأستاذ مبارك البلال، كانت علاقته بالراحل قوية جداً، الأمر الذي جعله يكتب في حياة الراحل كتاب بعنوان (من البرش للقرش) والذي حكي فيه الراحل ود الجبل قصته من الألف للياء عن حياته في دنيا المال والأعمال وفي ذلك يقول مبارك البلال: (كان الراحل ود الجبل من أنظف وأنقى الناس، وكانت علاقتي به مبنية على الحب والاحترام وعندما كنت أستشفي في القاهرة، كان يرسل ابنيه ليطمئن على صحتي، وعندما كتبت الكتاب الذي حكى فيه عن تجربته في عالم التجارة، قال لي إنه بدأ ببيع البيض والليمون وكان يحملهم على ظهر حمار من قريته إلى الخرطوم لبيعه، وذكر لي أنه بعد أن جني المبال وشيد العمارات لم يطرد يوما شخصا يفرش بضاعته تحت عمارته لأنه مر بذات التجربة، وكان كريما لم أطلب منه مساعدة لشخص إلا وتجده حاضرا، وأذكر مرة أني أخبرته بقصة امرأة فقيرة في حاجة لعربة كارو، فما كان منه وإلا نفذ طلبي وذلك بعد أن دعا المرأة واشترى لها الحمار والعربة)، مختتما: (يكفي أنه تم تكريمه من المشير سوار الذهب والسيد رئيس الجمهورية بأرفع الأوسمة تقديراً لعطائه السخي، وأحمد الله أنني عندما كتبت ذلك الكتاب تكفّلت بنفقته ولم آخذ قرشا منه، وكان ذلك ردا للجميل. فقده بالنسبة لي وللشعب السوداني كبير جدا، ولكن ندعو الله أن يرحمه ويغفر له ويجعل الجنة مثواه).
رصد: محاسن أحمد
صحيفة السوداني
انا لله وانا اليه راجعون ، اللهم اغفر له وارحمه واسكنه الفردوس الأعلي مع الصديقين والشهداء وحسن اؤلائك رفيقا.
اللهم أغفر له وأرحمه برحمتك الواسعة وتجاوز عنه بفضلك ياأكرم الأكرميين .