رأي ومقالات

“مناجم الملك سليمان” لرايدر هقارد: الأسطورة كمرجعيَّة تأريخيَّة ودينيَّة للاستعمار “1”

وإذ نحن في مرحلة الصبا ومقتبل العمر في قرية سلارا في ديار قبيل الأما (النيمانج) في جبال النُّوبة. وها نحن إذ كنا نتعلَّم اللغة الإنكليزيَّة والمواد الدِّراسيَّة الأخرى على أيدي أساتيذ أفذاذ، ومنهم على سبيل المثال حمودة خليفة، وأندل النُّوبي كنقر سالمون، والضي الإمام، ومحمد عبد القادر، ومحمد عثمان ميرغني، وحسين أبو منقة، والسمَّاني وغيرهم، أمدَّ الله في أعمارهم وأسعدهم الرَّب بكل خير أينما كانوا؛ وإذ نتذكَّر – ما نتذكَّر – أنَّ أستاذنا الجليل أندل النُّوبي كان مصارعاً فذاً لا يشق له غبار. ونتذكَّر أيضاً أنَّ ما تعلَّمناه منه، وأخذناه على لسانه، أو من الأساتذة الأجلاء الآخرين، هو ما تسلَّحنا به علماً لا مالاً في حياتنا التي نحيياها اليوم. وبعدئذٍ تفرَّقنا أيدي سبأ، فمنا من انخرط في السلطة الغشوم، ومنا من شغل نفسه بكسب المزيد من العلم زاهداً عن طلب الغنى، ومنا من شغل نفسه عن مطالب العلم بالوفر، حتى دان للبعض حظٌ من الجاه والثراء، وبات للبعض الآخر حظٌ من العلم والفقر. ولله در الشَّاعر العاملي – نسبة إلى قبيل “عاملة”، وهو قبيل يماني من العرب العاربة، الذي نزح من اليمن في القرن الخَّامس عشر الميلادي، واستوطن في منطقة “بنت جُبيل” في جنوب لبنان – حين قال:
شغلنا بكسب العلم عن طلب الغنى كما شُغِلوا عن مطالب العلم بالوفر
فكان لهم حظٌ من الجاه والغنى وكان لنا حظٌ من العلم والفقر

مهما يكن من أمر، فها نحن يومذاك نتتلمذ في المدرسة الثانوية العامة (المتوسَّطة) في السنة الأخيرة من العام الدِّراسي 1974-1975م، حيث كان من ضمن مقرَّرات الأدب الإنكليزي كتاب “مناجم الملك سليمان” (King Solomon’s Mines) للرُّوائي الإنكليزي هنري رايدر هاقارد، والمنشور العام 1885م. ثمَّ كان عقبال الكتاب لنفس الكاتب هو “ألان كواترمين (1887م)” (Alan Quatermain)، ثمَّ رواية ثالثة هي “جين أير (1847م)” (Jane Eyre) للرَّاوية الإنكليزيَّة شارلوت برونتي، وهي من أسرة ريفيَّة في مقاطعة يوركشير الغربيَّة الإنكليزيَّة، التي أنتجت إخواتاً كواتباً. وفي صيف العام 2017م عدنا إلى قراءة ثانية لرواية “مناجم الملك سليمان” لنختبر فهمنا، ولنعتبر درسنا بعد هذا العمر المديد، أي بعد أكثر من أربع حقب، وبعد أن مكثنا في بلد الإسكوتلنديين والإنكليز ما يقارب ثلاث حقب حسوماً، وذلك كذلك بعد أن خبرنا طرائقهم، وعرفنا سلوكهم، وألمَّينا بشيء من لغتهم وثقافتهم وأسلوب حيواتهم، ونظرتهم للآخر، وبخاصة في القرن التَّاسع عشر حين نُشِرت هذه الرِّوايات في أول الأمر وتمَّت إذاعتها في النَّاس، وحين شرع الأوربيُّون يتسابقون إلى استعمار إفريقيا، والاستحواز على مواردها وثرواتها. إذاً، ما هي قصة رواية “مناجم الملك سليمان” أو بأسلوب آخر عمَّ تتحدَّث هذه الرِّواية، وإلام كانت تهدف، ثمَّ علام ابتنى الكاتب روايته تلك؟

بادئ ذي بدء، إنَّ قصَّة الرِّواية لتدور حول التقاء ألان كواترمين برفيقيه السير هنري كيرتيس وجون قود على متن باخرة كانت تمخر عُباب المحيط الهندي من مدينة الكاب إلى ديربان في إقليم كوازولو-ناتال في جنوب إفريقيا. وبعد تناول وجبة العشاء، واحتساء أكوابٍ من الخمر، وتدخين لفافة التبغ من الغليون، حتى أخذ الثلاثة – حسبما ورد من سرد الشخصيَّة المحوريَّة في الرِّواية، أي ألان كواترمين – يتجاذبون أطراف الحديث، ويتعارفون عن قرب قريب، ويفصح كل منهم عن مهنته التي يمتهنها، أو حرفته التي يحترفها. إذ كان ألان كواترمين حينذاك صيَّاداً مقيماً في جنوب إفريقيا، وقد تجوَّل في منعرجاتها ووديانها، وبين شعاب جبالها، صائداً ماهراً للأفيال كان ثمَّ قنَّاصاً لأنماط التيتل، وما حوت جنوب إفريقيا من الحيوانات الأخرى والطيور من كل نوع. أما جون قود فقد كان قبطاناً في البحريَّة الملكيَّة البريطانيَّة في مرحلة المعاش، خبيراً بحياة البحر كان كما كان العهد به.

وبينما هم في حديثهم يتسامرون إذ أبان هنري كيرتيس بأنَّه جاء إلى جنوب إفريقيا بحثاً عن أخيه الأصغر نيفيل الذي تشاجر معه قبل أعوام، واشتدَّا في الخصام، وغلظ كل منهما على الآخر بسبب الميراث، مما اضطرَّ نيفيل أن يغادر إنكلترا مغاضباً، وقد قيل إنَّه جاء إلى جنوب إفريقيا ومن بعد لم يسمع عنه هنري منذ سنين عدداً، ثمَّ لم يجد من يأتيه منه مستبشراً بنبأ يقين. وإذا بألان يتذكَّر بأنَّه شاهد رجلاً أبيضاً جاء إلى مزرعته برفقة مواطن إفريقي وقضيا ليلة عنده؛ وإذا هما يغادران في فلق الصَّباح متوجِّهين شمالاً تجاه ما قيل عنه بجبال سبأ المنسوبة إلى الملكة بلقيس في القصة الإنجيليَّة أو القرآنيَّة الشهيرة؛ ثمَّ لم يسمع عنهما أبداً.

ومن هنا طفق ألان يتحدَّث عن تجربة البرتغالي الذي حضر ذات يوم إلى مزرعته حين كانت الشمس تودِّع النهار، وبعدما تعسجدت السماء بلون التِّبر، وأخذت ترسل أشعَّتها الذهبيَّة على السهول الشاسعة في تلك الأمسيَّة التي لا يكاد ينساها أو يتناساها. كان البرتغالي على حال يُرثى لها، وكان يحتضر من وعثاء السَّفر، وقد نال من سفره ذاك نصباً، ثمَّ كاد الجوع والظمأ يهلكانه قبل المثول أمام ألان في تلك الحال الكارثيَّة. فأطعمه ألان طعاماً ساخناً، وأسقاه ماءً صافياً، وإذا به ينتقل إلى مثواه الأخير في الصَّباح الباكر، وقبل شروق الشمس، وكان كل ما تركه هو خارطة المكان الذي أتى منه، أو بالأحرى المكان الذي أراد أن يصله، وكانت الخارطة مرسومة على قطعة قماش بالية، وكان الحبر الذي استخدم في الرَّسم هو دمه. واستطرد ألان مضيفاً إلى سامعيه بأنَّ الخارطة ما تزال موجودة عنده مع سقط متاعه في بيته في المرزعة الخلويَّة، حيث لم يعرها انتباهاً، ولم يهتم بأمرها قليلاً أو كثيراً، ثمَّ إنَّه لم يتحدَّث إلى أحد عن سيرتها أبداً.

وما أن استمع واستمتع المستر كيرتيس بحكاوي ألان، وهو الذي كان حكواتيَّاً من العيار الممتاز، حتى طلب منه أن يصطحبهما في رحلتهما بحثاً عن أخيه الآبق وكان يحدوه الأمل أنَّه قابع على الجانب الآخر من الجبل أو السلسلة الجبليَّة، ثمَّ كان رد ألان بأنَّه سيوافيه بردِّه في الغد، واستطرد قائلاً: “أليس الصبح بقريب!” فبعد أن وصل ثلاثتهم إلى ديربان وافق ألان أن يرافقهما، ثمَّ كان اللِّقاء في بيته الذي بناه في مزرعته، ومن ثمَّ شرعوا في شراء زاد السَّفر واختيار واختبار رفاق الطريق من المحليين الزولو بأجور زهيدة، إلا أنَّ أحداً من الفتيان تطوَّع أن يصطحبهم دون أجر، ولما خلع زيَّه وجدوا عليه وشماً للأفعى، وكان ذلك الفتى يبدو – فيما يبدو – من ملامحه بأنَّه ذو حسب ونسب عريقين، وله من الشأن ما هو عظيم، ثمَّ كان اسمه أومبوبا.

على أيَّة حال، فبعد انقضاء ثلاثة أيَّام في التحضير والتدبير، والتزوُّد بزاد الطريق، والتسلُّح بما يناسب السَّفر في مثل ذينك الزَّمان والمكان، انطلق كواترمين وصاحباه وحملة الأمتعة من الأفارقة على الدَّواب التي اشتروها لهذه الرَّحلة، وتوجَّهوا صوب الشمال وسط السُّهول المخضرَّة والمراعي المعشوشبة. ولعلَّك واجدٌ هنا وهناك مجموعات صغيرة من قرى المواطنين المحليين، حيث الدَّجاج يجري ويلقط الحبَّ، ثمَّ إنَّك لسامعٌ نقنقة وصياح الدِّيك. وفي تلك التربة المكسوَّة بالحشائش الخضراء، والمتزيِّنة بالشجيرات الشوكيَّة، ترى الطبيعة الخلابة؛ ثمَّ إنَّك لتجدنَّ في هذه المراعي الغنيَّة قطعاناً من البقر والضأن والماعز وهي ترعى بحبور وسرور، وآية ذلك خوار البقر، وثغاء العنزة، ونباح الكلاب التي تركض مهرولة وراء الماشية، وتختلط هذه الأصوات بطنين النَّحل، ونهيق الحمير، وصرير الجراد، ونقيق الضفادع، وهديل الهداهد وصفير النُّسور المحلِّقة في الجو ليخلق مِزاجاً من لحن موسيقي حيواني، ولكن بالمعنى الحميد لكلمة الحيوان. وكانوا في سفرهم هذا يصطادون الحيوانات البريَّة ريثما يأكلون لحماً طريَّاً طازجاً مما يشتهون، ويزيدون به زادهم في هذه الرَّحلة إلى مجاهل البلاد التي لا يعرفون عنها شيئاً كثيراً أو قليلاً. وفي إحدى عمليات الصيد قُتِل أحد حملة الأمتعة من الزولو، وهو الذي كان قد اهترسه الفيل الهائج بعد إصابته بطلقة ناريَّة، ودُفِن المقتول في قبر غير عميق على قارعة الطريق.

وبعد عدة أيَّام وصلوا إلى قرية من القرى الرِّيفيَّة، وطلبوا من صاحب الدَّار أن يحفظ لهم بعض أسلحتهم وذخيرتهم كأمانة عنده. ولكي يرعبوا الديَّار صاحب الدار حتى لا يخون العهد ويبيع أسلحتهم وأمتعتهم، استظهروا عليه سحراً ترهيباً، حيث أطلق أحدهم النَّار حتى خرجت الطلقة من فوهة البندقيَّة مخترقة مزرعة الماشية، وخرَّ الإفريقي مذهولاً. وفي الصباح الباكر، وقبل اشتداد الحر، وبعد الضيافة الفائقة والنوم الهنيء كما شهدت قرَّة أعينهم، مضوا إلى سبيلهم. ومن هنا أخذت البيئة تختلف رويداً رويداً، وقلَّ طعامهم وشرابهم، وغمرهم برد قارس، وغشَّى الجليد كل مكان، ومن هناك صعدوا جبلاً، ووجدوا عنده كهفاً دخلوا فيه للاستدفاء. وفي الصَّباح الباكر شرعوا يلتفتون يمنة ويسرة؛ فإذا هم يجدوا هيكلاً لرجل استنتجوا أنَّه لذاك البرتغالي الذي كان قد غامر بحياته محاولاً الوصول إلى مناجم الملك سليمان حتى قضى نحبه هناك؛ ثمَّ إذا في ذلك الصَّباح يموت إفريقي آخر من شدِّة برد الليل، والذي لم يقو جسده على تحمُّل هذا البرد والاصطبار عليه ليبقى حيَّاً. ومع ذلك كله، كان منظر الجليد الذي غشَّى أجزاءً واسعة من السلسلة الجبليَّة والسُّهول الشاسعة في الوديان أسفلها بهيجاً يسرُّ الناظرين؛ وكانت الشمس ترسل أشعَّتها الفضيَّة لتنعكس وضاءً كمرآة مصقولة لا شائبة فيها ولا راسبة، وذلك كله برغم من برود الجو وصفاء الهواء.

ثمَّ انحدر ثلاثتهم ورابعهم الإفريقي الوحيد أومبوبا الذي بقي على قيد الحياة، حتى وصلوا إلى الوادي أسفل الجبل، ووجدوا نهراً جارياً وسط الصُّخور، وفيه ماء نمير، وشرعوا يشربون منه ويغتسلون. إذ قلع جون قود بنطاله وغسَّله وعلَّقه على فنن الشجرة التي كانت مطلَّة على النَّهر، ووضع عينه الزجاجيَّة على جلمود الصخر، وأمسى بساقيه البيضاويتين عاريتين، وشرع يحلق دقنه وشنبه، وهو الذي كان دوماً يهتم بالهندام والأناقة. أما الآخرون فانشغل كل منهم بما لديه يفعله. وما هي إلا لحظات حتى ظهرت عصبة من أهل البلد الأفارقة، وقد أظهر هؤلاء القوم شيئاً من العداوة والدَّهشة شديداً أمام حضرة ثلاثة رجال بيض وآخر أسود، وطفقوا يسألونهم ما الذي أتى بهم إلى ديارهم؟ ولكن في مثل هذه الأحايين يتطلَّب الوضع عنصر الدَّهشة لصرف النَّاس عن عداوتهم، وفي سبيل تلطيف الأجواء. فبينما كان ألان يحادثهم بشيء من لغة الزولو التي كانوا يتكلَّمون بها بالتهاج مختلف، أخذ قود عينه الزجاجيَّة من عينه ووضعها أمامه، وسرعان ما خرَّ القوم صاعقين؛ ثمَّ استفاقوا من سكرتهم هذه وإذا بقود يقلع أسنانه الاصطناعيَّة ويحملها بيده أمامه، وتلك كانت هي معجزة أخرى؛ وإذا بهم ينظرون إلى ذقنه نصف المحلوقة وكان في ذلك غرائب؛ ثمَّ إذا هم يديمون النَّظر إلى ساقيه البيضاويتين وكان في تينك الساقين عجائب. ثمَّ تهوَّر شاب كان وسط العصبة وأمسك بحربته وحاول أن يقذف بها على ألان ورفاقه، إلا أنَّ الشيخ الهرم الذي كان معهم صدَّه عن ذاك الفعل، وقد أدركنا فيما بعد أن الشيخ الحكيم هذا هو أحد مستشاري الملك، وهو الذي كان يُدعى إنفادوس، أما الفتى المتهور الأرعن فهو الأمير ابن الملك طوالا ملك أرض كوكوانا. ثم أخبرهم ألان بأنَّهم قوم قادمون من النجوم. ثمَّ شرع الشيخ الوقور سائلاً: “ومن ذا الذي يكون ذاك الأسود الذي يتوسطكم، هل هو قادم من النجوم معكم ومثلكم!؟”

وإذ تأخذ هذه العصبة، التي كانت في رحلة صيد، ألان وصحبه إلى الملك، وذلك وسط طريق وعرة بين الصخور والحشائش والشجيرات الكثيفة، والأشجار الطويلة ذات الأغصان السامقة، ثمَّ يميلون يمنة ويسرة تارة، ويسيرون إلى الأمام طوراً آخر، حتى وصلوا إلى دار كبيرة بداخلها منزل إقامة الملك طوالا، والذي وجدوه في ساحة الدار في انتظارهم وسط حاشيته وزبانيته، حيث كان قد علم مسبقاً بوجود رجال غرباء في دياره بواسطة الرسول الذي بعثوه إليه لينبِّؤه بنبأ وصولهم، ومن ثمَّ استعدَّ لاستقبالهم.

مكث ألان ورفاقه في ضيافة ملك كوكوانا ردحاً من الزَّمان، يتعلَّمون عادات وتقاليد أهل البلاد، ويشاهدون مناظر الطبيعة الخلابة، ويزورهم الشيخ الوقور إنفادوس بين الفينة وأخرى. وفي إحدى الليالي أتاهم إنفادوس وأخذ يحدَّثهم عن تأريخ كوكوانا السِّياسي بشيء من التفصيل شديد. إذ شرع يسرد لهم كيف اغتصب طوالا السلطة وبات ملكاً عضوضاً بعد أن اغتال الملك الشرعي، وهربت زوج الملك القتيل بابنها اليافع في ليلة ليلاء، وطلب طوالا من كل سكان القرى المجاورة بعدم إطعامهما أو إسقاهما أينما وجدا. وإذا ببعلة الملك المقتول غدراً تطأ قدماها مع ابنها قرية من القرى ويطعمهما أهل القرية برغم من الوعيد والتهديد الشديدين من الملك طوالا؛ وإذا بأهل القرية إيَّاها يأمرونهما بمغادرة المنطقة؛ ثمَّ إذا هما يفارقان القرية التي كانا فيها إلى الأبد، ولا أحد يعرف مصيرهما حتى الآن. وقد بدا الأسلوب الذي به اعتلى طوالا العرش في مملكة كوكوانا يشكِّل مصدر قلق له باستمرار؛ إذ نراه يتساءل نفسه في نفسه عما إذا لم يكن الوصول إلى مثل هذه القمة بالأسلوب الموارب إيَّاه يحمل في طيَّاته علامات السقوط. ثمَّ كان هذا القلق النَّفسي الذي ظل يلازمه هو ما بات يتخمَّر في جوانيَّته، وتؤكِّده أفعاله الوحشيَّة.

فبينما كان إنفادوس يسرد هذه القصة التأريخيَّة السياسيَّة التراجيديَّة كان أومبوبا يستمع بشيء من التركيز شديد، وبخاصة حين ذكر إنفادوس أنَّ الطفل الوريث للسلطة يحمل وشماً لحيَّة على ظهره، وكان اسمه إقنوسي. وعلى التو كشف أومبوبا رداءه، واستدار ليُري إنفادوس والذين معه الوشم؛ فإذا بإنفادوس يندهش ويدرك أنَّ ما كان طفلاً طريداً مع والدته قد عاد صبيَّاً قويَّاً؛ ثمَّ إذا به يأمره أن يكتم ما سمع وما عنده من آيات السلطة الملكيَّة ودست الحكم في كوكوانا.

ثمَّ تمر الليالي والأيَّام والأسابيع والشهور، حتى تمَّت دعوة ألان وصحبه إلى حفل ليلي، حيث يقمن الفتيات بالرَّقص، والتي تبزُّ إخوتها في الرَّقص وتشير إليها الساحرة قاقول يقوم الملك طوالا بالإشارة إلى زبانيته بقتلها. وفي تلك الليلة تمَّ اختيار إحدى الحسناوات لجمالها ورقصها، وهبَّ سدنة الملك يريدون قتلها، فهربت الفتاة وارتمت بنفسها باكية شاكية أمام قود، وإذ ينطلق ابن طوالا الأمير المتهوِّرمصوِّباً حربته نحوها، وإذ يتصارع هنري كيرتيس مع ابن الملك؛ وإذ ينحرف هنري قليلاً ليتجنَّب ضربة الابن الأمير؛ ثمَّ إذ يخرج هنري غدارته ويصوِّبها على الابن الهائج هياج الأسد الجريح، ويطلق عليه رصاصة أودت بحياته؛ فإذا هو جثة هامدة وسط هيط وميط شديدين، وعويل العجوز الساحرة قاقول، وغضبة الملك في أعظم ما يكون الغضب من فقد ابنه الأمير، وتفرَّق القوم متذمِّرين غير متسامرين إلى يوم يوعدون. ثمَّ دبَّر الملك مكيدة للقضاء على هؤلاء الأجانب الذين أراق أحدهم دم ابنه، ولكن خاب مسعاه، ومُني بفشل ذريع.

وتمرَّ الأيَّام بصروفها، والليالي بعواديها، حتى بلغ السَّيل الزُّبي، وبلغت القلوب الحناجر، ومن ثمَّ اجتمع إنفادوس مع بعض قادة الجيش المخلصين الذين وثق فيهم الثقة كلها، والسلاطين الأوفياء الوفاء كله، وأسرَّ لهم بالوريث الحقيق للسلطة الملكيَّة في أرض كوكوانا، وعقدوا عزمهم على نصرته لاعتلاء العرش. وإذا بالجيش ينقسم إلى فريقين: فصيل مع طوالا الملك العضوض، وفصيل آخر تحت قيادة إنفادوس لنصرة إقنوسي حتى يستعيد المُلك المغصوب. ثمَّ كان يوم التلاقي، حيث التقى الجمعان في الوادي وراء الجبال، ودارت معركة داميَّة لا هوادة فيها بين الجيشين المسلَّحين بالحراب والسيوف. وفوق ذلك، كانت معركة شعواء، وكانت الأرض والسماء تكتنفها أصوات الجرحى. وفجاءة تتراءى لك كتيبة الغبش يتأرجحن إلى الأمام وإلى الخلف، ويزأر أفرادها كالأسود الضارية، وحرابهم مرفوعة، ثمَّ تتقابل الكتائب في قتال مميت. وإذ تسمع في الثواني التاليات وقع القنا، وقرقعة الدروع المتقاتلة التي أتت إلى مسامع ألان ورفاقه كصوت الرَّعد، وبدت السهول وكأنَّها متشبِّعة بومضات الضوء المنعكس من الحراب المتلألئة. ومن هنا وهناك، ويميناً تارة ويساراً تارة أخرى تعلو أصوات المقاومة، وتكثر الطعنات البشريَّة، ولكن لم يدم هذا المنظر طويلاً. وفجاءة أخذت خطوط الهجوم تبدو ضعيفة رويداً رويداً، وبعد التنهُّد والارتفاع الإيقاعي البطيء الطويل طغت كتيبة الغبش على غريمها كما يحشد الموج العظيم كثافته ويمرُّ طاغياً على موج صغير. وبما أنَّ كتيبة الملك قد تمَّت إبادتها كليَّاً، إلا أنَّ الغبش احتفظوا بخطين فقط، وقد فقدوا ثلث تعدادهم. وفي المعركة التي تلت من ذا الذي يستطيع أن يصفها؟ توالت الحشود المهاجمة على جنود إقنوسي، ومرَّة تلو أخرى استطاع إقنوسي وجنده هزيمة القوات المهاجمة، ويدفعونها إلى الوراء، وكان لسان حال أحد منهم يقول، أو إحدى حسناواتهم تقول:
ما يزال حاملو الحراب المتعاندون يفعلون خيراً
عودهم الأسود الذي لا يُختَرق،
يتقدَّم كلٌ منهم حيث كان يقف رفيقه
في اللحظة التي فيها سقط

على أيِّة حال، فقد كان منظراً بهيجاً أن ترى هذه الكتائب الباسلة يأتين حيناً بعد حين فوق موانع موتاهم، وفي بعض الأحايين يرفعون جثامينهم لاستخدامها كدروع جسديَّة ضد طعنات حراب جيوش إقنوسي، ولكن سرعان ما تقع جثامينهم لتزداد تعداد أرتال الجثامين الملقاه على الأرض قبلئذٍ. وكان الشيء الشهير أن تسمع إنفادوس، ذلكم المحارب العجوز الذي لا يعرف الاستسلام أو لا يجد الاستسلام إليه سبيلاً، وبشيء من البرود شديد وكأنَّه في عرض عسكري، يصرخ آمراً حيناً، وموبِّخاً حيناً آخر، ومتفكِّهاً في بعض الأحايين، وذلك كله لرفع الرُّوح المعنويَّة لرجالة القلائل المتبقين؛ وكان كلَّما اندفع المندفعون إلى الأمام، تجدنَّه قد قفز إلى حيث يكتظ القتال ليساهم بشراكته في صد الأعداء الغائرين. ثمَّ كان حين يرى القوم أقبل جمعهم يصرخون استدار وكرَّ ولم يفر، وشرع يرميهم بالحراب ويقطِّعهم بالحسام، حتى وجد نفسه مولجاً بخوض شتى أنواع المعارك.

وكذلك إنَّك لترى السير هنرى، والذي لا يقل شجاعة عن إنفادوس، وقد اختطفت حربة مقذوفة نحوه ريش النعام الذي كان معقوداً على رأسه، حتى سال شعره الأصفر خلفه عند مداعبة النسيم. وهناك كذلك كان يقف رجل الشمال العظيم، حيث كانت يداه وفأسه ودرعه كلها محمرَّة بالدِّماء، ولا أحد يستطيع أن يعيش لحظة أمام ضربته. هكذا دارت المعركة منذ الفجر حتى المساء بوحشيَّتها وضراوتها، بهيجانها وصراخها، وبأنين الموتى وبكاوات الثكلى، حتى جاءت الخاتمة فيما سنرى. فحين جاءت جيوش إقنوسي المنتصرة إلى القصر الرئاسي، وبرز لهم طوالا وحسبما في أعراف شعب كوكوانا إنَّ الملك لا يموت إعداماً، بل يقاتل حتى يُقتل مقاتلاً. فإذا بطوالا يطلب القتال؛ وإذا به يختار هنري كيرتيس قاتل ابنه الأمير الأرعن؛ وإذا ألان يحاول أن يثني صديقه عن مبارزته؛ وإذا بهنري يرفض في أشد ما يكون الرَّفض؛ وإذا المبارزة بين الرجلين تبدأ ضرباً وصراعاً، وقوفاً وسقوطاً، والدِّماء تتطاير وتتناثر هنا وهناك، حتى تسربل المكان بالدَّم؛ ثمَّ في نهاية الأمر إذا بهنري يسدِّد ضربة قاضية، حتى قضى على الملك طوالا صاحب العين الواحدة.

وبعد انتهاء المعركة، وانجلاء الموقف من ذلك البلاء، ومقتل الملك طوالا على يد هنري كيرتيس، تمَّ تنصيب إقنوسي ملكاً على أرض كوكوانا وشعبها وسط مراسيم ملكيَّة صاخبة، حتى بدت على وجه إقنوسي السعادة، والسعادة لا تتحقَّق في غياب المشكلات عن حياتنا، لكنها تتحقَّق في التغلب على هذه المشكلات التي تحدث في حياتنا اليوميَّة. وبعد أيَّام قلائل، أي بعد شفاء قود والذي كان قد جُرِح جرحاً غائراً في المعركة إيَّاها، أمر إقنوسي الساحرة العجوز قاقول أن تأخذ ألان وصاحبيه إلى داخل المغارة حيث توجد كنوز الذهب والمجهورات الثمينة الأخرى، وفي داخل الكهف وفي ظاهرة أشبه بلمع البرق وبسرعة خاطفة سدَّدت قاقول طعنة قاتلة للفتاة التي أنقذوا حياتها من قبل، وأمست متعلِّقة بقود في أشدَّ ما يكون الشغف والحب، وهي التي باتت تمارضه بعد الجرح الذي تعرَّض له في المعركة إيَّاها. وإذ ينغلق باب المغارة أمام الجميع؛ وإذ تسقط صخرة ضخمة وتقتل قاقول جزاءً نكالاً بما اقترفت يداها؛ وإذ يقضي ألان وصاحباه ومرافقوهم يوم أو يومين في مجاهل تلك المغارة المظلمة؛ وإذ يتحسَّسوا مخرجهم عن طريق الهواء العليل الذي أخذ يمدَّهم بالأكسجين في تلك اللحظات العصيبة المرعبة حتى بالكاد نفد غذاؤهم وشرابهم؛ وإذ هم يجدون فوهة صغيرة ينبعث منها الضوء الذي بات يرسل أشعَّته إليهم في الدَّاخل؛ وإذ هم بقوَّة رجل واحد يزيحون الحجر عن موضعه، وهم فيما هم فاعلون يجدون أنفسهم سابحين في نهر داخلي أخذهم بغتة إلى الخارج؛ ثمَّ إذ يتنفَّسون الصعداء، حتى أقفلوا راجعين إلى منزل الملك الجديد.

بعد أيام من الاستجمام طلب ألان ورفاقه من الملك إقنوسي السماح لهم بالعودة إلى ديارهم وأهليهم، فقد طال شوقهم إليهم، وامتدَّ بهم الغياب عنهم، وآن الأوان للإيَّاب إليهم، حتى أذن لهم إقنوسي هو الآخر ومنحهم من يرافقهم إلى خارج المدينة، لكي يريهم طريقاً قصيرة إلى جنوب إفريقيا. وفيما كان إقنوسي يودِّعهم كانت عيناه تدمعان، وعروقه تمتليء دماً ساخناً، فما أحلى ساعات اللقاء، وما أمرَّ ساعات الفراق والوداع، وبخاصة الوداع الأبدي لمن عرفته وعاشرته وصادقته زمناً ليس بقصير، بل تلمَّست فيه الصداقة الصَّادقة، والفداء العظيم، والتضحية في سبيلك.

على أيٍّ، فقد أخذهم الدَّليل إلى قمة الجبل وأشار إليهم بأخذ تلك الطريق وانصرفوا منحدرين من الجبل صوب الجنوب، بينما أقفل الدَّليل عائداً إلى المدينة. وبعد ساعات طويلة من السير رأوا على البعد منظر رجل يعرج، وحينما اقتربوا منه أدركوا أنَّ ملامحه ملامح الرَّجل الأبيض، حتى جاءوه، ونظروا إليه بعد التحيَّة والترحاب، فإذا به يصبح صاحبهم هذا شقيق هنري كيرتيس الضائع، وهو الذي كان قد جاء مغاضباً إلى إفريقيا بحثاً عن الثروة والثراء، وحدث له ما حدث من حظ عاثر وكسر رجله حين هرسته صخرة متدحرجة، حتى أمسى قعيد المكان مع خادمه الإفريقي الوفي الذي بات مخلصاً له، حفيَّاً به كان، ثمَّ مظهراً له شيئاً من الولاء شديداً، حتى جاء أخوه ليأخذه إلى إنكلترا، ويأخذ نصيبه من الورثة كاملاً ودون أيَّة قسمة ضيزى.

ومع كل ما في الرواية من إثارة بالغة، إلا أنَّها أمست مكتظة اكتظاظاً شديداً بألفاظ عنصريَّة وإيماءات احتقاريَّة للأفارقة. فقد أورد الكاتب في كتبه التي قرأناها عبارة “كافر” للإشارة إلى الأفارقة كثراً ومراراً، حتى أخفقنا في إحصائها عدَّاً وتعداداً، وكذلك لفظة “متوحِّش” أو “همجي” أو “شخص فظ” (Savage).(1) ومثل معاصره جوزيف كونراد في رواية “قلب الظلام (1899م)” (Heart of Darkness)، كانت أوصاف وتصاوير هقارد للأفارقة تعبِّر بشيء من الازدراء شديد بهم، وكان أسلوبه وغيره بمثابة الإفراز عن الانطباعات السائدة حينئذٍ، والتي كان يرى أصحابها، ويعتقد معتنقوها أنَّ السيادة والسمو والحريَّة تكمن فقط تحت العلم البريطاني مع الرَّجل الأبيض. ومع ذلك، ذهبت الكاتبة مايا جازانوف مدافعة عن كونراد في روايته إيَّاها، وصارفة عنه صبغة العنصريَّة، مستطردة بأنَّ الواقع يقول إنَّ الأوربيين بقادرين على حدٍ سواء أن يرتكبوا أعمالاً وحشيَّة كما يفعل السود “المتوحِّشون”، كما بدا في عقل الروائي من فنتازيا والذي يعاني من جنون العظمة والارتياب.

إذاً، ماذا يعني تركيز بطولة الرَّجل الأبيض في رواية “مناجم الملك سليمان” لهقارد واستحضاره في رواياته الأخرى؟ إنَّ هذا كله ليعني– في مخيَّلة الرَّجل الأبيض – أنَّ القوَّة تكمن في يده، والحضارة التي نشأت في إفريقيا ما هي إلا بفضل وجود وفعاليَّة الرَّجل الأبيض الآتي من الصقيع، وكأنَّ الإفريقي ليس بقادرٍ على تأسيس الحضارة، ولا على إفعال الطاقة الكامنة لديه سواء أكانت طاقة عقليَّة أم جسديَّة، وذلك كله برغم مما ساهم به الإنسان الإفريقي في بناء الحضارة والعمران ليس في زيمبابوي فحسب، بل في وادي النِّيل (السُّودان ومصر) والحبشة ومالي وغانا وهلمجرَّاً، وذلك مما لا يرتقي الشك والريب إليه في شيء. وكان ذلكم التأريخ تأريخاً عريقاً ومتكاملاً، غارقاً في القدم، ثمَّ إنَّه كان تأريخاً مزدهراً ومتقدِّماً في وقت لم تكن أوربا قد دخلت فيه ولو بدايات نهضتها، وكانت أميريكا لا تزال مجرَّد غابات وسهول بالكاد يقطنها بشر. وفي تلكم القرون كذلك كانت إنكلترا تتمتَّع بسمعة شيطانيَّة، حيث كان سكَّانها يمتازون بوحشيَّة عاداتهم: إذ كانوا يصطبغون أجسادهم بصبغة زرقاء، ويغدون ذهاباً وإيَّاباً عراة، وكان قساوستهم وسحرتهم يُسمُّون الدرويدس، وكانوا أشخاصاً لو نظرت إليهم لمُلئت منهم رعباً؛ ثمَّ كانت ضفائر شعرهم الممشوط، وعيونهم السوداء الواسعة، تظهرهم كأنَّهم شوَّاذ في مسكن عشوائي. ومع ذلك كله، كانوا مستحضري الأرواح الذين امتهنوا التضحية بالإنسان كقربان، وأكل لحوم البشر في بساتين مزيَّنة بالدبق، وهو نبات طفيلي. هذا فقد جرى ذلك كله قبل أن يرسل الإمبراطور الرُّوماني كلوديوس قواته لغزو إنكلترا العام 43م بقيادة أولوس بلوتيوس، مستغلاً التناحر الأسري الذي شاع وساد وسط قبائل الجزيرة البريطانيَّة.

أما إذا كان ما كتبه هقارد وآخرون منطلقاً من باب الحقد والحسد فإنَّهما ناران كل منهما أشدُّ من الأخرى، فالحقد شيء دفين في القلب يتولَّد بالتصرُّفات وبالتعامل مع النَّاس؛ إنَّه شر ونار تهلك صاحبها. أما الحسد فهو مرض عضَّال يجبر صاحبه على الموت البطيء، فهو لا يرتاح برؤية غيره سعيداً ومتنعِّماً، بل يريد كل شيء لنفسه فقط. فحين كتب هقارد عن الأفارقة كان فريداً في أسلوبه، وإن لم يكن من نوعه. ولعلَّ الفرادة تأتي من كون أنَّه كان معادياً لهم حيناً، وساخراً منهم في بعض الأحايين، حيث لن يتَّسع المكان هنا للوقوف عند هذه العداوة وتلك السخريَّة. وبالتالي سنتوقف هنا عند هذا النموذج المغامراتي في مجال الرِّواية التي تعود إلى نهايات القرن التَّاسع عشر على مخرج الروائع هقارد. فهي، بعد كل شيء، تكاد تكون واحدة من الرِّوايات الأكثر شيوعاً كما يُعرف إلى حدٍ ما، وبحسب الملايين الذين قرأوها، أو اكتفوا بمشاهدة الفيلم المنبثق منها.

بقي لنا أن نقول إنَّ السير هنري رايدر هقارد (1856-1925م)، الذي عمل في الخدمة المدنيَّة، وكإصلاحي ومفوَّض وزراعي وراوي قصصي من النوع المبدع بامتياز، هو الذي كان قد ألَّف أربع وثلاثين رواية في المغامرات، حتى أمسى رجلاً ذا شهرة وذائع الصيت، حيث تتذكَّر النَّاس اليوم جيِّداً “مناجم الملك سليمان (1885م)”، و”ألان كواترمين (1887م)”، و”هي (1887م)”. وكتكملة ل”مناجم الملك سليمان” يفتتح هقارد رواية “ألان كواترمين” بعودة تلاقي ألان كواترمين والسير هنري كيرتيس والكابتن جون قود، وبرفقة أحد محاربي الزولو النبيل أومسلوبوقاس. وإذا بالأبطال البواسل ينخرطون في رحلة مرهقة قاسية في سبيل البحث عن مملكة ضائعة في شرق إفريقيا. وهناك يخوضون في قتال مثير، ومخاطر مروِّعة، وهروب بإعجوبة، حيث لم يكد يعنى الدَّم والنَّار والماء عندهم من الأمر شيئاً، ولم يمثِّل خطراً عليهم، أكثر من تشحيذ الانتباه في سبيل الملكتين الحسناوتين في مملكة ذو-فينديس في هذه المغامرة القصصيَّة.

أما رواية “هي” فتحكي عن ميراث الأب لابنه والذي يقود إلى استقدام ليو فينسي وصاحبيه المغامرين إلى إفريقيا. وفي سفرهم ذاك أخذوا يعبرون الأنهار الموبوءة بالتماسيح، ويصعدون الجبال البركانيَّة، ويخوضون في المستنقعات، حتى وصلوا إلى مغارات متَّسعة مخيفة في مملكة كور، حيث يقابلون الملكة البيضاء ملكة شعب أماحقر. والملكة إيَّاها هي امرأة لها حظ أسطوري من الجمال، وفاتنة كانت ثمَّ مدمِّرة، وقد انتظرت ألفين عاماً للميلاد الثاني ولعودة الرَّجل الذي عشقته. والرَّجل – حسب اعتقادها – هو ليو فينسي. كذلك كتب هقارد عن حال الزرَّاع والزراعة في بريطانيا. ففي كتابيه “عام المزارع (1898م)”، و”إنكلترا الرِّيفيَّة (1902م)” ساهم هقارد مساهمة فعَّالة في رفع الظلم عن كاهل المزارع والمالك البسيط. وبهذين الكتابين حدَّد هقارد موقفه من الأدب والحياة كنوع من الرَّد على الزوابع السِّياسيَّة التي تنتاب النَّاس في حيواتهم الدنيا.

غير أنَّ هذا الواقع الكمِّي الفريد من نوعه لم يمنع النقَّاد من النَّظر إلى هقارد على أنَّه إنَّما كان يغرف دوماً من نزعة عنصريَّة، بل لم يكد يفتأ أن يردِّدها في روايتيه الأشهر اللتين كتبهما، واللتين أشرنا إليهما آنفاً. وبقدر ذلك اعتبر النقَّاد أعمال هقارد سيكولوجيَّة بقدر ما هو ديني وروحي، ولكن في شكل موارب. وقبل رحيله العام 1925م، كانت حياته مليئة حقاً إلى درجة جعلت بعض سماتها يستحق أن يدخل في كتب الأرقام القياسيَّة. هكذا جمع هقارد المجد من طرفيه، وحسب المجد تمراً هو آكله: نال حظوة لدي القرَّاء، وحظوة لدي أساطين الحياة الأدبيَّة، وساندته في ذلك كله قدرته الهائلة على الإنتاج، فأضحى واحداً من أكبر الظواهر الأدبيَّة في القرن التَّاسع عشر. هذا هو هقارد الذي كان كان قد رحل عن عالمنا العام 1925م، وهو غير دارٍ أبداً بالمصير الذي سيكتبه له التأريخ لمجموعته الروائيَّة الأساسيَّة.

وللمقال بقيَّة،،،

بقلم:
الدكتور عمر مصطفى شركيان
سودان تربيون.