بين سيناء وحلايب ..
1. الدكتور جعفر ميرغني أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم والدكتور معاذ أحمد محمد أحمد تنقو الخبير في القانون الدولي بوزارة العدل بالخرطوم- كل في مجال تخصصه- أبانا أن السودان ومصر لم يكونا بلدا واحدا في يوم من الأيام.
إن حدود السودان القديم في التاريخ امتدت شمالا حتى رفح وفلسطين وبلاد الشام ، وأن حدود مصر منذ الفراعنة ومرورا بكل الدول التي حكمت مصر حتى العثمانيين هي هي لم تتغير.
2. حدود السودان القديم كانت في كتب قدامى مؤرخي العرب كالمقريزي، وكانت شأنا للدويلات والسلطنات والممالك التي قامت في السودان. من أشهر تلك الممالك مملكة كوش. في مقاله ” السودان في نصوص الكتب المقدسة ” – وهي توراة موسى وانجيل عيسى عليهما السلام- كشف الأستاذ عبد الرحيم عجب أن للسودان “حضورا مؤثرا ومميزا” في التوراة وفي الإنجيل ، وفي التوراة أكثر مما هو في الإنجيل .
3.الحدود الحديثة لمصر والسودان رسمتها فرمانات السلطنة العثمانية في تركيا . لقد كانت مصر كما كان السودان خاضعين للسيادة التركية إذ استولت دولة آل عثمان في القرن التاسع عشرالميلادي على مصر والسودان على التوالي. بالسيادة التي كانت لها على البلدين، ولأنهما بَلدان متباينان ومختلفان حددت لكل منهما حدوده بفرمانات صادرة من الباب العالي – كما كان يعرف الخليفة العثماني بتركيا.
4. بحسب تلك الفرمانات وخاصة فرمان 1841 بتعيين محمد علي باشا واليا على إقليم مصر:
أ.حدود إقليم مصر تبدأ من نحو خمسة أميال جنوب أسوان (خط عرض 24 ش) لتمتد شمالا حتى البحر الأبيض المتوسط . يلاحظ أن منطقة حلايب تقع جنوب هذا الخط في امتداده شرقا حتى البحر الأحمر.
ب. حدود إقليم السودان في شماله تبدأ من حدود مصر الجنوبية اي من عند خط العرض 24 ش، في امتداد الخط شرقا نحو البحر الأحمر دونه تقع مديرية سواكن التي تضم حلايب وشلاتين وشمال شلاتين حتى برنيس القديمة وأحيانا حتى خليج بناس.
5. في اقليم السودان منطقته الواقعة بين حلفا ( خط عرض 22 ش) وحدود إقليم مصر الجنوبية عند خط العرض 24 ش ، هذه المنطقة هي أرض النوبة . حين قامت الدولة المهدية في السودان لم يشمل نفوذها هذه المنطقة فسميت مديرية الحدود واستتبعت إدارتها رأسا للسلطان التركي في الإستانا ولم يعهد لمصر بإدارتها . في ” قراءة في ملف حلايب” أستاذ القانون الدولي البروفيسير فيصل عبد الرحمن علي طه أبان ان محاولة المصريين للإلتفاف على فرمانات الباب العالي لادعاء حقوق سيادية على السودان او جزء منه كانت حرثا في البحر .
6. في معاهدة سنة 1885 بين بريطانيا والدولة العثمانية طلبت بريطانيا موافقة الباب العالي في تركيا لكي تتولى بريطانيا في إقليم مصر إصلاح اقتصادها الخرب وإدارتها الفاسدة حتى تتمكن مصر من سداد ديونها لأوربا. مصر كانت قد دخلت في ديون لتتمكن من إنشاء قناة السويس. وربما على سبيل تقديم الحوافز لكسب موافقة تركيا على اقتراح بريطانيا او طلبها ، عرضت ان تعيد إلى السيادة التركية أقاليم السودان المارقة عليها – بسبب ثورة الإمام المهدي- ونجحت بريطانيا في المسعيين ، قبول طلبها بإصلاح الإقتصاد والإدارة في مصر وإعادة فتح السودان .
7. من ثم عين اللورد كرومر مندوبا ساميا لبريطانيا في مصر وعضوا دائما في مجلس النظار (الوزراء)المصري. بين المجتمعين كان اللورد كرومر هو صاحب القرار، ولا يتخذ أي قرار بدون موافقته ، أما الخديوي إسماعيل حاكم إقليم مصر من قبل الباب العالي العثماني فلقد أصبح رقما في سلسلة من حكم مصر من آل محمد علي. يوم انتهت مدة خدمة اللورد كرومر في مصر ودعه أمير الشعراء أحمد شوقي موثقا لكرومر وسلطانه في مصر فقال:
أيامكم أم عهد إسماعيلا *** أم أنت فرعون يسوس النيلا
أم حاكم مصر في أرض مصر بأمره***لا سائلا أبدا ولا مسؤولا
يا مالكا رق الرقاب ببأسه *** هل اتخدت إلى القلوب سبيلا
لما رحلت عن البلاد تشهدت *** فكأنك الداء العياء رحيلا
8. في سنة1896/9 وقعت بريطانيا ومصر عدة وفاقات. في برقية من اللورد ساسبوري وزير خارجية بريطانيا إلى اللورد كرومر أوضح أن بريطانيا لا تدخل مع مصر في أي التزام دولي لأن مصر لم تكن تملك من أمر نفسها شيئا فلا أهلية لها في القانون الدولي وإنما هي ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وأكدت بريطانيا نفس المفهوم إلى الباب العالي في الإستانا. في العدد الأول من جريدة السودان الرسمية وصف ما تم الإتفاق عليه ب ” وفاقات ” . وكيفما كانت التسمية فما كان من أثر لما اتفق عليه إلا تثبيت هبة لمصر، ورد مصر لجزء مما وهب لها عبر قرارات رئيس مجلس النظار، وترتب على الهبة نقل حدود السودان جنوبا من خط العرض 24 ش إلى خط العرض 22 ش .
كان من أثر النقلة :
أ) سلخ مديرية الحدود (أرض النوبة) من أرض إقليم السودان وضمها إلى إقليم مصر، ولأول مرة في تاريخ النوبة أن يتبع أهلها لحكم مباشر من مصر ولم يسبق في تأريخهم أن حكمتهم مصر او ممن حكم مصر، فمصر في تاريخها وحتى القرن العشرين لم تخل من غاز حاكم.
ب) خلق فوضى إدارية في حدود مديرية سواكن على البحر الأحمر.
أعيد من الهبة ما كان ضروريا لإزالة تلك الفوضى التي خلفتها ، فضلا عن أن ما أعيد لم يكن مهما او ضروريا لمشروع خزان أسوان المزمع كما سيأتي بيانه. ما أعيد من الهبة عنى الرجوع إلى الترسيم العثماني للحدود – أو قريبا منه والذي كانت قد أخلت به الهبة.
توثيق الهبة اقتضى توقيعين: واهب وموهوب له ورد الهبة كفاه توقيع واحد . نحن لا نحتاج لأن نشغل أنفسنا او نلهي الناس بالنظر في صفة الموقعين على قبول الهبة ورد الهبة . بطرس غالي ناظر الخارجية ومصطفى فهمي رئيس مجلس النظار وناظر الداخلية ، وكيفما كانت مسميات موقعيهما هما في الواقع يأتمران بأمر كرومر ، فالقرار قرار كرومر في كلتا الحالتين ،الهبة ورد الهبة . كرومر كان ” حاكم مصر في أرض مصر بأمره وكان فرعون يسوس النيلا” ، لم يكن لمصر رأي أو سلطان في أيهما ،الهبة أو رد الهبة . إذن ليس صحيحا أن ما تم مع كرومر كان لترسيم حدود السودان بعد فتحه . حدود إقليم السودان كما كانت حدود إقليم مصر من ترسيم تركيا العثمانية التي كانت لها السيادة على الإقليمين . إعادة فتح السودان لم تغير في حدوده شيئا ولفظ إعادة يعني تكرار ما كان . مصر ما كانت تملك من أمر نفسها شيئا لتقرر في أي اتجاه. إن مبرر التغيير في الحدود كما تكشف كان بذريعة إقامة خزان أسوان المزمع . قيل إن الدراسات والمسح الذي تم على طول أرض نيل مصر- وكان كل ذلك قد اكتمل في سنة 1896 – أبان أن أسوان كانت المكان الوحيد والمناسب لإقامة الخزان، كما أبان أن البحيرة المترتبة على قيام الخزان سيمتد أثرها حتى كنتور 22 ش غامرا أرض مديرية الحدود (أرض النوبة). ومن هنا كان تبرير زحزحة خط العرض 24 ش إلى خط العرض 22 ش – هذا الخط في مسيرته شرقا عند البحر الأحمر قضم مديرية سواكن مما خلق فوضى إدارية تداركها أوجب العودة إلى خط الحدود العثماني فضلا عن أن ما أعيد لم يكن مهما لقيام سد أسوان كما سبق إليه القول. خزان أسوان كمبرر لما كان هو ما قدمه اللورد كرومر للورد سالسبوري وزير خارجية بريطانيا . لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل مهمة اللورد كرومر لإصلاح اقتصاد مصر الخرب وإدارتها الفاسدة كانت تخوله تغيير حدود مصر؟ وهل تخويله لإعادة فتح السودان امتد لأن يبدل في حدود السودان؟ يزيد من هنا وينقص من هناك، يهب كيف يشاء ويسترد ما وهب.
9. أقاليم سيناء والسودان الذي كان قد أعيد للسيادة التركية، أقاليم خاضعة لتركيا و تتم إدارتها من الخرطوم . في الخرطوم أنشئت وظيفة الحاكم العام وأوكلت إليه هذه الإدارة.
10. في سنة 1914 أضيف إقليم سيناء لمصر وأنهيت إدارته من السودان. الحاكم العام السير ونجت باشا كان آخر حاكم عام للسودان تولى الإشراف على سيناء .
11. ولاية الحاكم العام على السودان وحده استمرت حتى استقلال البلاد فآل إلى الدولة الوليدة ما كان في ولاية الحاكم العام – أي السودان بحدوده التي نعرفها و أرض حلايب من ضمنها، وهي الحدود التي في خرائط الأمم المتحدة و منشورة على كل الدنيا ومصر من ضمنها، فلقد كانت وإلى شهور قريبة في خارطة مثبتة على الحائط خلف مجلس وزراء مصر المجتمع و الذي تمت إذاعة اجتماعه عبر الفضائيات لكل الدنيا .
12. إعادة فتح السودان قام بها قائد وضباط بريطانيون، أغلب جنودهم إن لم يكونوا جميعا مصريون – مرتزقة في لغة العصر. هم مرتزقة، ولا يقدح في ذلك أن رواتبهم كانت تدفع من خزنة مصر. بريطانيا التي كانت بيدها مفاتيح خزنة مصر مدت يدها لتلك الخزنة فدفعت منها أجور هؤلاء المرتزقة. هم كمرتزقة ليس لهم كسب في ما تم إلا الأجر المقبوض، و الذي من قبل كان قد كلف آلافهم حياتهم بشيكان في صدام سابق مع السودانيين، قادهم إليه هكس باشا- بريطاني آخر. وزير الخارجية البريطاني يومئذ قال أنه لم يسمع بإختفاء جيش كامل من وجه الأرض منذ عهد سيدنا موسى وفرعون إلا ما حدث في شيكان. لم ينج إلا واحد أبقي عليه ليبلغ الخبر.
13. حلايب سودانية ما في ذلك شك. حلايب سودانية منذ كانت الأرض ولكن في إعلام مصر حين يناقش موضوع حلايب في الفضائيات، من يطالعوننا – كل يوصف بالخبير و و و ، يبدلون الحقائق رغم توثيقها ليبيعوا الوهم للمصريين حتى يخلقوا منهم رأيا عاما لغير قضية.
هؤلاء نجحوا في جر محاوريهم من السودانيين بعيدا عن التوصيف الصحيح لما تم في 1898/9 ومبرراته و عن أثر اللورد كرومر و تأثيره في إدارة شؤون مصر. لم يكن بين المحاورين السودانيين من سأل مناظريه من المصريين لماذا تبحث مصر في وثائق السودان عما تعزز به دعواها ضد إسرائيل في الخلاف حول طابا، ثم أبانوا لمحاوريهم أن سيناء التي بها طابا لم تكن مصرية في الأصل وكانت تُدار من الخرطوم، وأن الوثائق التي انتهت ب”طابا” لمصر هي نفس الوثائق التي تثبت أن حلايب ليست لمصر و أنها سودانية. لكنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه.
14. حلايب سودانية، فماذا يمسك حكومة السودان أن تستعيدها؟ إن السكوت في معرض الإبانة رضا كما يقول الناس! ام أن حكومة السودان وقد أضاعت الجنوب- ومكنت للفوضى في الغرب، وفي جنوب النيل الأزرق، وفي جبال النوبة، والآن في شمال السودان وشرقه – لكأنها موكولة بتقطيع البلاد. ما يعنيها؟ ما بقي من الضرع يُمكّن من الرضاعة. ولكننا نعوذ بالله من بطن لا تشبع وتقاة لا تنهى ولا تمنع، وسلطان فاجر يضر ولا ينفع.
15. أبحاث الدكتور معاذ أحمد تنقو في القانون الدولي كشفت عن دربكة تولت أمرها بريطانيا من غير سند في القانون وربما في تجاهل تام لحقوق تركيا السيادية. سيناء والسودان كانتا أراض خاضعة للسيادة التركية، ولأن موضوع السيادة جوهري في ما يتصل بالتصرف المنسحب على إقليم، بريطانيا لم تتقدم لإصلاح إقتصاد مصر الخرب وإدارتها الفاسدة وإعادة فتح السودان إلا بعد إستئذان تركيا وموافقتها.
فلقد كانت السيادة لتركيا على الإقليمين ويوم أفلت منها السودان اعتبر مارقا فوجبت إعادته، ولأن موضوع السيادة جوهري، بريطانيا بإعلان أنه لتركيا استطاعت ان ترد فرنسا عن غزو السودان من جنوبه وبلجيكا من جنوبه الغربي.
تخويل تركيا لبريطانيا بأن تتصرف في أرض خاضعة للسيادة التركية كان قاصرا على الإصلاح الإقتصادي والإداري لمصر واستعادة السودان المارق إلى سيادة تركيا، فكيف خولت بريطانيا لنفسها أن تجري كل تلك التعديلات في حدود مصر تقطع أرضا من أرض السودان وتضيفها لمصر كما تضيف لها سيناء؟ كيف تسنى لمصر أن تكون طرفا في أي اتفاق له أثر في القانون الدولي وهي ناقصة الأهلية ولا تملك من أمر نفسها شيئا؟ ام هي إملاءات كرومر ” مالك رق الرقاب ببأسه وما كان سائلا ولا مسؤولا ” او من سار على دربه ممن خلفه أو جاء من بعده، ولم يكن لمصر إلا الطاعة والإذعان! ولم يتبدل الحال في مصر حتى بعد رفع الحماية عنها في عشرينات القرن الماضي واستبدال المندوب السامي بسفير. ما كان في أربعينات القرن الماضي بين اللورد كليرن سفير بريطانيا في مصر وفاروق ملك مصر ليس بغائب عن الذاكرة .
إضاءات :
1) إعادة فتح السودان كانت بإسم تركيا فلماذا لم يكن علم تركيا وحدها وليس غيرها في السودان
2) لو افترضنا ان إعادة فتح السودان خلقت لبريطانيا سيادة على السودان بدل السيادة التركية، فلماذا لم يكن علم بريطانيا وحده في السودان؟
3) لو افترضنا أن إعادة فتح السودان على نحو ما كان بإسم تركيا ومساعدة بريطانيا كان قد خول لبريطانيا مشاركة تركيا في السيادة على السودان ، لماذا لم يكن علم تركيا إلى جانب العلم البريطاني؟
4) إذا كان المصريون في حملة إعادة السودان مرتزقة، تماما كجنود السودان في حرب اليمن اليوم كيف كان لهم نصيب في أنفال الحرب تمثل في رفع علم مصر إلى جانب علم بريطانيا في السودان؟
بقلم:صالح فرح
أبوظبي – أبريل 2018