تحقيقات وتقارير

هجرة الكوادر الطبية.. نزف مُستمر !!


ألقت الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد مؤخراً، ألقت بظلالها السالبة على الأحوال الصحية، فانتقلت (عدوى) نقص الكوادر الطبية لتشمل حتى المشافي الخاصة، نقصٌ لم (يسلم) منه تخصص، ما عجّل بسفر الكثيرين لتلقي العلاج بالخارج رغم (عُسر) الأحوال المادية..
وزارة الصحة الاتحادية باعتبارها الجهة المنوط بها توفير العلاج بالداخل أعلنت (أول أمس الإثنين) عن مبادرة للاستفادة من الاختصاصيين والأطباء السودانيين العاملين بالخارج بهدف توطين العلاج بالداخل بالتعاون مع جهاز تنظيم شؤون السودانيين العاملين بالخارج.

عمليات مُعقَّدة

وكيل وزارة الصحة د. سعاد الكارب قالت في ذلكم الاجتماع إن المبادرة تقوم على تهيئة المستشفيات الكبرى بالبلاد للاستفادة من الأطباء الزائرين لإجراء العمليات المعقدة مثل القلب، الكلي، المخ والأعصاب والأورام باعتبارها أكثر الأمراض طلباً بالخارج، مشيرة إلى مشكلات ومعاناة تواجه السودانيين الذين يتلقون العلاج بالخارج منها عدم القدرة على تكملة العلاج بالإضافة لبعض الممارسات التي يتعرضون لها في بعض الدول.
ومن هنا تتناسل الأسئلة حول تواصل هجرة الكوادر الطبية بصوره مستمرة رغم أن الوزارة المختصة والجهات ذات الصلة ظلت تكرر بأنها تعمل جاهدة لإيقاف هذه الهجرة وتوطين العلاج بالداخل.. هل ضعف المرتبات وحده هو السبب الذي جعل الكوادر الطبية تحزم حقائب الرحيل؟ أم أن عدم توفر الوظائف حتى بهذه المرتبات الضعيفة هو السبب وراء هجرتهم؟

(40) مُمرِّضة يحزمن حقائب السفر

إن جاز لنا أن نبدأ بمهنة التمريض، فالممرضة تويا حسن قالت لــ(السوداني) إنه على الرغم من دورنا المحوري في علاج المرضى إلا أن مرتباتنا ضعيفة لدرجة أنها لا تكفي لشخص واحد فكيف إذا كنا نعمل لمساعدة أسرنا، فمثلا أنا أسرتي ليست بالخرطوم محتاجة مأكل ومسكن والراتب لا يسد رمقي أنا، فكيف أوفر مبلغاً لأسرتي التي تعبت وشقيت من أجل تعليمي، مما جعلني اضطر للعمل بمستشفيين هنا صباحاً وهنالك مساءً، وذلك لمساعدة أسرتي، وطالما نحن بعيدين عنهم الأفضل الابتعاد بفائدة. وأضافت تقول: لذلك قررت البحث عن عمل خارج البلاد لأننا مطلوبين بالخارج، وبالفعل وجدت فرصة بإحدى وكالات السفر وبراتب جيد، يستحق أن اغترب من أجله. وأكدت أن عدد زميلاتها اللائي قدمن معها بالوكالة “40” ممرضة، وقد أكملنا جميع الإجراءات وينتظرن فقط موعد السفر من الوكالة.

العمل بنظام الدوامين!!

ولم تبعد الممرضة إيناس طه – إحدى الكوادر الطبية العاملة بمستشفى إبراهيم مالك – كثيراً عن محور حديث زميلتها حيث قالت لا بد من الهجرة لأنَّ الوضع الاقتصادي والمرتبات غير مجدية وبيئة العمل طاردة وليس هنالك اهتمام بالكادر الصحي. وأكدت أن الممرضين في ندرة بالمستشفيات الحكومية والأغلبية بالخارج أو بالمستشفيات الخاصة، مضيفة أن الوضع صعب والمستلزمات كثيرة قالت مثلا أنا مستأجرة وأسرتي تعتمد عليَّ في الكثير من الاحتياجات، علماً بأن المرتب لا يكفي لشخص واحد ولذلك أعمل بدوامين بمستشفيات مختلفة لكي أستطيع المساعدة وحالياً مقدمة للسفر للكويت مع إحدى الوكالات للعمل هناك، العمل بالخارج مجزٍ وتتوفر الكثير من الخدمات لكن مقابل القيام بعملك وهذا ما نتطلع إليه.

تجربة ناجحة

أما وئام حسن فقصتها تختلف عن زميلتيها، حيث إنها واحدة من الممرضات اللاتي أتبعن القول بالفعل، فقد غادرت إلى دوله الكويت والتحقت بإحدى المستشفيات هناك، وقالت لـ(السوداني) إنها كانت تعمل في السودان لفترة طويل لكنها فشلت في تحقيق أصغر هدف مما كانت تخطط له، ولذا غادرت السوداني من مستشفى ابن سينا وحدة غسيل الكلى، مؤكدة أن فراق المرضى كان أصعب عليها من فراق الأهل، لكن ضعف الراتب وسوء بيئة العمل، جعلها تتوكَّل على الله وتقرر الهجرة، وأكدت أنها عندما كانت تعمل بمستشفى ابن سينا كثيراً ما كانت تخرج ليلاً بعد الدوام لتبدأ في رحلة بحث عن مواصلات تصل بها إلى منزلهم وهذا ما رفضته أسرتها مراراً وتكراراً ، لذلك عندما أتيحت الفرصة وجاءت عروض على الفور قدمت هي ومعها عدد كبير من زميلاتها، وبعد أن اجتزن كل الامتحانات بتفوق سافرنا إلى الكويت، وقالت : الآن نعيش في وضع ممتاز نتمناه لكل زملائنا، فمعينات العمل متوفره بأحدث ما يكون ولذلك لا تتوجع من أجل مريض لم يجد عناية وهذا ما كان يقطع نياط قلوبنا في السودان.

ضغوط من كل الاتجاهات

وبالانتقال لمُربع الأطباء، حدَّثنا طبيب بمستشفى ابن سينا – فضل حجب اسمه –قال إن (ابتلاءاتهم) في هذه المهنة تأتي من عدة اتجاهات، فمن جهة يتعرضون لمضايقات من قبل بعض المرافقين، وكذلك يواجهون إهمالاً من إدارات المستشفيات التى يعملون بها، ولذا يفكر الأطباء في الهجرة، وأكد أنه لو لا المرضى والمعاناة التي يجدونها بسبب الآلام لما بقي طبيب بالسودان، مؤكداً أن الإقبال على الهجرة ارتفع بشكل كبير جداً خاصة في مجال التمريض، حيث ذهب العاملون لتحسين أوضاعهم فدفعت المستشفيات خصوصاً (الحكومية) الثمن غالياً، واستدل مُحدَّثنا بمستشفى ابن سينا مؤكداً أن عدد العاملين في مجال التمريض أصبح قليلاً لدرجة اقتربت من الندرة. ليس ذلك فحسب بل إن الكل ينتظر الفرص المناسبة لأن ما يقدم للكادر الطبي هنا (فتات) لا يكفي حتى الأطفال في الشهر فما بالك بشخص مسؤول ولديه التزامات ينتظر كل شهر لأخذ راتب لا يغني ولا يسمن من جوع.

عدم الاهتمام

من ناحيته قال د. محمد عوض الكريم اختصاصي الأطفال لـ(السوداني): إن هنالك عدة أسباب عجَّلت بهجرة الكوادر الطبية منها سوء بيئة العمل، فهي غير مهيأة لا للأطباء ولا للكوادر الأخرى، وأضاف بأن معظم العاملين بإدارات المستشفيات لايقومون بواجبهم المهني الذي ينبغي أن يقومون به تجاه المرضى، لأنهم غير مؤهلين بشكل جيد لهذه المهام الإدارية، ومن ثم انتقل إلى الجزئية المتعلقة بـ(المرتبات) مؤكداً أنها ضعيفة جداً لدرجة أنها لا تكفي لمصروف أسبوع واحد.

أيضاً من محفزات الهجرة ضعف التدريب حيث لا يوجد اهتمام بالكوادر، فالدولة لا تهتم بتخصص الأطباء العموميين، ولا توجد خطة لذلك حتى ينتظر الأطباء على أملها، وليس هنالك اهتمام بالتخصصات النادرة والدقيقة، وأخيراً الوضع الاقتصادي المحبط في البلد وأنت مطالب بالتزامات أسرية وهنالك أطفال ومدارس لديك مسؤولية تجاههم، مرتبات داخل البنوك لا تستطيع أخذها وقت الحاجة إليها، أيضاً كثيراً ما يقف الطبيب في صف البنزين لتعبئة سيارته ويأتي ذلك على حساب محاضراته لصغار الأطباء أو مرضاه بالمستشفى والعيادة وقال الوضع مؤلم لذلك أسباب الهجرة كثيرة، فأنت ملزم بأهل ينتظرون حصاد تعليمك، وهنالك المرضى نفسهم ووضعهم بات سبباً للهجرة، فأنت إنسان في الأول والآخر.

لا محفزات للبقاء

من جهته أرجع رئيس النقابة العامة للمهن الطبية والصحية د. ياسر هجرة الكوادر الطبية إلى عدم التعيين وأن التعينات منذ سنوات متوقفة بوزارة الصحة، وأن هنالك ما لا يقل عن 500 وظيفة شاغرة، بالمؤسسات الصحية، ولكن ليس هنالك تعيينات والأسباب غير واضحة مما أدى إلى هجرتهم خارج البلاد ما أدى لخلق خلل في الكوادر بالمستشفيات، مضيفاً أن التعيين المتعامل به الآن مع الكوادر الطبية هو العقودات ويعتبر تعيين غير مقبول وذلك لأن التعيينات يجب أن تكون عن طريق ديوان شؤون الخدمة وهنا يصبح التعيين عادلاً وبه روح المنافسة ويتم التعيين على حسب الخبرة والتأهل والشروط، والتعاقد هذا يكون بدون إعلان عنه، مما يجعل الكادر بلا انتماء للمؤسسة بل مع العائد المادي، وليست هنالك شروط أو محفزات لديه للبقاء وإذا وجد مكاناً أنسب سينسحب دون تردد ، وغير ذلك لا تصبح لديهم فرص للتدريب والدراسات العليا، عكس التوظيف عن طريق شؤون الخدمة فرغم المرتبات الضعيفة كان هنالك فرص تدريب ومنح لدراسات عليا، ولكن الآن هنالك خريجي صيدلة وغيرهم لا يجدون فرصة للتدريب وينتظرون سنوات للتدريب، وقال بدورنا كان لنا حديث مطول عن الفرص هذه ولكن دون جدوى وهذا أهم سبب يعجِّل بهجرة الكوادر لخارج البلاد والاستفادة من سنواتهم طالما انهم لا يجدون فرصاً هنا مع هضم حقوقهم.

تحقيق : شيراز سيف الدين
صحيفة السوداني.