السودان وإريتريا .. رهان الحدود
فيما كان الصراع لايزال متصاعداً بين السودان وإريتريا، كانت هناك أطراف أخرى موجودة داخل الإطار، ساعيةً إلى فرض نفسها، وقد ضاقت ذرعاً بتخبّط الحكومة السودانية على المحور الإثيوبي تارة، والإريتري تارة أخرى. ومعلوم أنّه عند حمل السلاح في أي أرضٍ ونشر الجنود على الحدود وإغلاقها، حتى وإن أُعلن، فيما بعد، عن سحبهم وفتحها مرة أخرى، فإنّه لا بد من وجود بُعدٍ سياسي حاضر في هذا المشهد. وهذا ما حدث في ولاية كسلا شرق السودان التي أعلن منها الرئيس السوداني، عمر البشير، الأسبوع الماضي، فتح الحدود مع إريتريا، في زيارته لها ضمن جولاته الداخلية التي يحاول فيها حشد دعمٍ شعبي، بالإضافة إلى محاولات استجدائه من تحرّكاته الخارجية، والتي لم يحصد منها غير الدعم بالكلمات.
ديدن العلاقة السودانية ــ الإريترية هو الاتهامات والتوتر، فقد احتضنت إريتريا العمل المسلح للمعارضة السودانية الجنوبية والشمالية، عقب اتهام الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، الخرطوم بدعم جماعات إسلامية في إريتريا عام 1994. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2002، اتهم البشير إريتريا بالخيانة، بعد تعرّض مواقع الجيش في منطقة الحدود السودانية الإريترية لهجومٍ شنته الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، بإسناد إريتري بالقوات والأسلحة، لتردّ أسمرة على الاتهامات السودانية معتبرة أنّها ترقى إلى إعلان حرب. ولم تفلح
“دعمت إريتريا العمل المسلح للمعارضة، عقب اتهام أفورقي الخرطوم بدعم جماعات إسلامية في إريتريا عام 1994”
المصالحات الإقليمية التي عُقدت بين الطرفين، لتتواصل العلاقة متأرجحةً بين الشدّ والجذب، والتقارب والخلاف.
حصل إغلاق الحدود قبل عام واحد في 6 يناير/كانون الثاني، حين أعلنت الحكومة السودانية ذلك، بموجب مرسوم جمهوري خاص بإعلان الطوارئ في ولاية كسلا، أعقبه إرسال تعزيزات عسكرية إلى الولاية. برّرت الحكومة ذلك بحجج عديدة، منها عملية جمع السلاح، ومكافحة تهريب المخدرات والسلع والاتجار بالبشر. وكان المشهد بكامله خاضعاً لإيحاءات تحركات عسكرية بين مصر والسودان عند الحدود الإريترية. وفوراً، ذهبت الآلة الإعلامية نحو تصوير مصير مجهول، تبعها النظام السوداني على غير هدى، منقاداً بخلافاته الظرفية مع مصر، وظنّاً منه أنّه امتلك مفاتيح حل أزمة سدّ النهضة، فنكص عن اتفاقاتٍ وتسرّبت أخرى من بين يديه. وقد كان بعيداً نسبياً أن يذهب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، ويعقد اتفاقاته وصفقاته مع مصر، ثم يعقد مصالحته التاريخية مع إريتريا، تاركاً السودان ينظر بأسىً إلى اللبن المسكوب، في وقتٍ أعادت دول الخليج وضع إريتريا داخل السياق الجغرافي السياسي للقرن الأفريقي بشكلٍ عاجل.
على الجهة المقابلة من هذه الأحداث، كان رهان البشير على الحصان الخاسر، قد أخرج السودان من لعبة التوازنات الإقليمية، حتى ولو بالوجود اللفظي فحسب. فبعد إغلاق حدوده مع إريتريا، تواءمت جميع الأضداد، فقد كانت من وراء الحدود محفّزات على المستوى الإقليمي، أدت إلى الالتفات إلى إريتريا، منها الفوضى في اليمن. تقابل إريتريا، اليمن بموقعها المهم في منطقة القرن الأفريقي، لما تمثله من أهمية إستراتيجية متصاعدة، نسبة لنشاط صناعة نقل النفط البحري، ثم الشاغل الأمني المتمثّل في إمكانية التحكّم في الممرات المائية في هذه المنطقة. وتأتي هذه التهديدات أساساً بفعل المميزات الجيوسياسية والاقتصادية للمنطقة، باعتبارها ممراً لناقلات النفط ومعبراً للتجارة الدولية، بالإضافة إلى مميزات وجود نقاط ومضائق إستراتيجية عسكرية، تسمح بانسياب القوات الدولية عبره إلى المحيطات المختلفة.
لا تفارق النظام السوداني مشكلة الإدراك المتأخر، وإصدار القرارات غير المدروسة، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، وهي ما جعلت النظام لا يأبه بمنطقة شرق السودان وأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للقطر وللإقليم ومنطقة القرن الأفريقي. كما جعله قصور النظر يفتعل المشكلات مع إريتريا، ذلك البلد الصغير، والتي كانت تعاني من أكبر عزلةٍ في داخل أفريقيا، بدلاً من احتوائها. وقبل أن تمرّ سنة واحدة من إغلاق حدوده معها، تصبح إريتريا ذات أهمية بالنسبة لقوى إقليمية ودولية، وتُرفع عنها العقوبات الدولية.
الأعجب من ذلك أنّ الإريتريين ليسوا غرباء على شرق السودان، فثقافة الطرفين وعرقيتهما وتاريخهما متشابكة بشكلٍ وثيق منذ عصورٍ قديمة. ربما يكون الأهم من ذلك، والذي يفسّر أن إريتريي الشرق جزء مكمّل من شرق السودان على مرّ التاريخ هو أنّه، على خلاف قضايا اللجوء، مكث من لم يتمكّنوا من الهجرة إلى أوروبا أو إسرائيل، طوعاً في كسلا أو المدن المتاخمة، وكثيرٌ منهم في الخرطوم. ومع أوجه التشابه هذه، توجد أيضاً فروق بين السودانيين والإريتريين الذين يتعامل معهم أهل الشرق يومياً. هناك تباينٌ واضح في القيم التقليدية بين المجتمعين. وعلى الرغم من ذلك، تظلّ الأسباب الموضوعية والذاتية للتقارب مرجّحة، ومحقّقة فرصاً يستطيع بموجبها المجتمعان تحقيق اختراقاتٍ نوعيةٍ على صعيد العلاقات.
ونسبة لنقاط الالتقاء هذه، فإنّ عائلات متداخلة كثيرة بين البلدين لا تقتنع بهذه الحدود، بل تشجب على الدوام طبيعتها الاصطناعية. بل إنّها لا ترتقي إلى أن تكون مصدر خلاف، كما في خلافات الحدود الأفريقية التي جاءت في الأدبيات السياسية مثل الجدل الذي أطلقه بازل دافيدسون في كتابه “عبء الرجل الأسود: أفريقيا ولعنة الدولة – الأمة” عام 1992، بقوله
“الإدراك المتأخر في السياسة الداخلية أو الخارجية هو ما جعل نظام البشير يهمل منطقة شرق السودان، ومنطقة القرن الأفريقي”
إنّ التقسيم الاستعماري أدخل القارة في إطارٍ من الحدود الاصطناعية البحتة، والتي هي ضارة في الغالب. وهو ما يأتي على توصيف المشكلة في الحدود السودانية ــ الإريترية، وهي ليست في طبيعة الخطوط الوهمية المرسومة بقدر ما هي في التطورات على الأرض، فطبيعة هذه الحدود تميل إلى أن تكون أقل استقراراً نسبة لكثافتها السكانية، فهي تمثّل شرايين حياة اقتصادية على الجانبين. وهنا كان إضفاء الشرعية الاجتماعية على حدودها الحالية مهماً لتلطيف النزاعات التي تنشب بين حين وآخر، وتتجاوز ما تقوم به الحكومات من رفع غطاء الحماية عن مواطني الدولتين بواسطة القوة العسكرية.
وينطبق على الحدود الإريترية ما تعانيه حدود ولايات السودان الداخلية، نتيجة فشل الدولة السودانية في احتواء شتات الهويات المتعددة المنحصرة في الولايات ذات الحدود الدولية. وبأخذ كل إقليم حدودي في تشكيل قوميته المتوحدة في ذاتها، بعدما فشلت وحدتها مع الدولة الأم، يمكن القول إنّه بإمكان مواطني شرق السودان، باعتبارهم قومية خالصة، أن تجد مبرّراً تسوغه لتغيير وضعها، بتشكيل كيان سياسي مستقل. وهذا المبرّر، على الرغم مما فيه من تبعاتٍ وتحديات، وعلى الرغم من أنّه قد لا يكون أحسن الحلول المطروحة البديلة، كحلول تنمية الإقليم والشراكة السياسية العادلة، فإنّه إن تم، فعلى المستوى الواقعي سيكون التجربة الثانية بعد تجربة انفصال جنوب السودان في تفتيت الدولة إلى عدة دويلاتٍ، تقوم على أسس عرقية وإثنية.
يقف النظام السوداني اليوم عند مفترق طرق خطير، حيث مآلات الثورة آخذة في التحول إلى إطاحة بالنظام أو إرهاقه بهذه الاحتجاجات اليومية، ولفت أنظار العالم إلى مواجهته العنيفة لهذه الاحتجاجات. ليس لدى أي من السودان أو إريتريا سجلٌّ مشرّف في مجال حقوق الإنسان، لذا فإنّ النظام السوداني اختلق الصدام الذي أدى إلى إغلاق الحدود. ولمّا أُغلقت جميع الأبواب أمامه، عمل على فتحها من أجل تشتيت الانتباه عن موجة الاحتجاجات الشعبية. وفي هذا المنعطف، لن تدخل إريتريا الخارجة لتوها من سجن العقوبات الدولية الطويل في مجازفة أخرى، بالتعاطي مع نظامٍ يمارس التعسّف المطلق، وتعذيب المعتقلين، وقتل المتظاهرين. فلم ترد أي ردة فعل إعلامية إريترية مرحّبة، أو مهتمة بخطوة السودان نحو فتح الحدود، وذلك على غِرار دول المنطقة التي تجاوزت العلاقة بينها وبين السودان حدود المداورة إلى النفور الواضح.
منى عبد الفتاح
العربي الجديد
كان الأجدر الإستفادة من تجربة حلحلة مشاكل الحدود مع دولة تشاد وتطبيقها مع دولة أريتريا الشقيقة بدلا من إغلاقها بهذه الصورة الإرتجالية الرعناء… ما يجمعنا بأريتريا أكبر مما يفرقنا….نأمل أن لا نفرط فى هذه الجارة الشقيقة . وعلى كل حال أن تأتى متأخرا خيرا من أن لاتأتى