جريدة لندنية : مستقبل الاستثمار التركي والقطري في السودان بعد البشير
يحدث ذلك في السودان القطر الشاسع الغني بالموارد الطبيعية؛ حيث الأرض الشاسعة (200 مليون فدان مربع) صالح للزراعة، وثروة حيوانية (أكثر من 150 مليون رأس). وفيه 12 نهراً، وتنوّع مناخي ومحصولي. يعد من أغنى دول العالم من حيث الموارد، خاصة بعد اكتشاف النفط والذهب خلال العقدين الماضيين، وموارد تؤهّله لأن يعيش شعبه في رفاهية. لكنه ظل ضمن النموذج الاقتصادي صاحب الوصفة الواحدة «استثمار أجنبي» وديون تسمى مساعدات، وأيضاً انفتاح تجاري وسعي لزيادة التصدير من المواد الأولية، قد يكون لتوهان العقل السياسي في المصالح الحزبية والذاتية، والفساد وغياب دولة القانون، كل ذلك جعل السودان دولة فقيرة تستجدي المنح والقروض والمعونات.
نعم شهد الاقتصاد السوداني ازدهاراً ملحوظاً؛ بفضل دخول النفط كموردٍ سريع العوائد لموازنة البلاد. كما أن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد زاد؛ في ظل تنامي الإنتاج الذي واكب ارتفاع الطلب العالمي وزيادة أسعار النفط عالمياً، ونتيجة لذلك تدفّقت الـ «استثمارات الأجنبية»، وبدأ السودان يحقّق معدّلات نمو عالية. لكن النظام لم يحقّق الفائدة المرجوّة من هذه الظروف في تطوير قطاعات البلاد الإنتاجية الأخرى؛ سواء ما يتصل بثروتها الحيوانية أم قدراتها الزراعية التي تعتبر المستقبل الحقيقي للبلاد.
دائماً ما جاءت الأخبار بأن سكان ضاحية ما، خرجوا في تظاهرة احتجاجاً على نزع أراضيهم التي ظلوا يمتلكونها ويفلحونها لـ «عشرات السنوات»، ذلك لصالح «مستثمرين» بموجب قوانين جائرة صدرت لتجيز للحكومة تجاوز ما كان سارياً منذ بداية القرن الـ20 من تحريم تمليك الأرض في السودان للأجانب، ومن حماية لأصحاب الأرض الأصليين. فقد سبق لحكومة السودان منح مليوني فدان غرب النيل بالإقليم الشمالي لرجال أعمال «مصريين» ليفعلوا بها ما يشاؤون، ويجلبوا لها ملايين الفلاحين المصريين، فكاً للضائقة الديموغرافية التي تواجه الجارة الشقيقة. كما باعت الحكومة أراضي النقل النهري على شاطئ النيل في الخرطوم بحري لمستثمرين «قطريين». حيث تحتل قطر مرتبة متقدمة في قائمة الدول العربية التي تستثمر في السودان، وبلغ عدد المشروعات القطرية في السودان 60 مشروعاً في مختلف القطاعات برأسمال قدره 1.7 بليون دولار. كذلك تم تأجير 400 ألف فدان بالجزيرة لشركة من «كوريا الجنوبية»، بقيمة دولار واحد للفدان، لفترة 33 سنة. كذلك اتّجهت الخرطوم نحو تعزيز علاقاتها مع «أنقرة»، التي حظيت بامتيازات في ميناء سواكن على البحر الأحمر.
كل ذلك يحدث في دولة تقبع كأحد أسوأ مراكز ممارسة أنشطة الأعمال على المستويين الإفريقي والعالمي، لذا لم يكن مستغرباً انحسار تدفقات «الاستثمار» الأجنبي المباشر خلال العامين الماضيين بشدة. ويتضح ذلك بالنظر إلى وضع السودان في أحد أهم بوصلات المستثمرين «تقرير ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2018» الصادر عن البنك الدولي، وهو تقرير يقيس 11 إجراءً من الإجراءات الحكومية في حياة الشركات، لتحديد مدى سهولة ممارسة الأعمال، لنجد أن السودان تقبع في المرتبة الـ170 من أصل 190 دولة حول العالم في مدى ملاءمة بيئة العمل للاستثمار، أي أنها تبتعد عن القاع بـ19 مركزاً فقط، وتتأخر عنها فقط مجموعة من أفقر الدول على سطح الأرض.
الحقيقة أنه عند مطالعة الإصلاحات التي تم تنفيذها لتسهيل القيام بالأعمال التجارية العام الماضي، يفاجئنا التقرير بتنفيذ السودان إجراءين اثنين جعلا ممارسة الأعمال أكثر صعوبة، أحدهما في جانب بدء النشاط التجاري، حيث جعلت زيادة تكلفة «ختم الشركة» بدء الأعمال أكثر صعوبة بمراحل، وآخر في جانب حماية المستثمرين الأقليات، عن طريق السماح بمقاضاة المديرين في حالة المعاملات الضارة، وتناقص حقوق ودور المساهمين في القرارات الرئيسة للشركات وتقويض هياكل الملكية والتحكم، مقابل «صفر» إصلاحات لتسهيل الأعمال بشكل فعّال على الأراضي السودانية.
نعم بدا وكأن انتظار «استثمارات» أجنبية فعالة ومنتظمة على الأراضي السودانية الواعدة طبيعياً هو بمثابة انتظار لوجوده في ظل بيروقراطية وعوائق نظام تبدو أشبه بسلاح أعمى لا يفرق بين عدو وحليف، ويقف حاجزاً أمام الجميع تقريباً، لكن البيروقراطية والعوائق الإدارية والفقر التخطيطي لم تكن أبداً هي العدو الأول، وإنما يحتل المرتبة الأولى دوماً عدو من نوع تقليدي ومألوف في كامل الرقعة العربية بلا استثناء. عليه فالسودان، ووفقاً لتقرير الفساد الصادر عن شركة «غان» للأبحاث، تعتبر واحدة من أكثر الدول «فساداً» في العالم، حيث يمتلك المسؤولون الحكوميون حصصاً مباشرة وغير مباشرة في العديد من الشركات، وكثيراً ما يشاركون أيضاً في ممارسات فاسدة من دون عقاب.
لقد سلّطت مواقع إخبارية ومغرّدون على مواقع التواصل الاجتماعي، الضوء على اتفاقية سواكن الموقّعة بين البشير ونظيره أردوغان. وكان الرئيس التركي أعلن في كانون الأول (ديسمبر) 2017 أن السودان سلّم جزيرة سواكن الواقعة في البحر الأحمر شرق السودان لتركيا، كي تتولى إعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية لم يحددها، وقيل حينها إن الغرض هو إقامة قاعدة عسكرية تركية وهو ما نفاه السودان. وبعدها نشرت صحيفة «الشرق» القطرية، أن السودان وقطر وقَّعا محضر اجتماع اللجنة المشتركة لإعادة تأهيل وإدارة ميناء سواكن. وتحدثت مواقع إخبارية ونشطاء على مواقع التواصل وخبراء في الشأن السوداني، عما يفيد بمنح السودان مهلة لنظام تركيا لإخلاء جزيرة سواكن السودانية، وإنهاء العمل بالاتفاقية الموقّعة بين الجانبين بشأن الجزيرة. ولم يصدر أي تأكيد رسمي من الجانبين.
كان العمل قد توقف في جزيرة سواكن عقب الاحتجاجات التي اندلعت ضد نظام البشير الذي ظل يحكم البلاد طيلة 30 عاماً. وذكر البعض أن الكبار أعطوا مهلة لنظام تركيا لإخلاء جزيرة سواكن السودانية من أي وجود تركي استخباراتي أو عسكري. وقيل لأردوغان، تمكنوا من وضع قاعدة تركيا العسكرية في قطر والصومال ولكن في السودان القاعدة هي أرض العرب للعرب. قرار المجلس الانتقالي في السودان برفض إقامة قاعدة تركية في جزيرة سواكن هو تأكيد على أن السودان الجديد لن يقبل بارتهان أراضيه لأي كان.
يبقى أنه بالفعل استفادت دول الخليج من التقنيات الحديثة نحو «الاستثمار» في السودان، فقد استصلحت مئات الآلاف من الأفدنة، وتمت زراعتها قمحاً وعلفاً، (بالري المحوري)، لدرجة أنها اكتفت ذاتياً وأصبحت ممولاً رئيساً للأسواق الخليجية بمنتجات مزارعها من الأعلاف والقمح والدواجن والبيض ومشتقات الألبان، لكن أين العائد على السودان؟ وهل سيظل السودان رهين النهب الدولي تحت شعار «الاستثمار»؟ وهنا يؤكد مؤشر مدركات الفساد للعام 2017، والذي يقيس مستويات الفساد في القطاع العام، تلك الحقيقة، حيث يجلس السودان في قاع التصنيف تقريباً ليحتل المرتبة الـ175 من أصل 180 دولة حول العالم.
نجاح عبدالله سليمان
*كاتبة مصرية.
المشهد السوداني
غريبة الا يوجد تعليق على هذا المقال الذي يعتبر من اخطر المقالات تتحدث عن ثروات السودان الهائلة