قوى الحرية والعسكري.. سيناريوهات التوافق والتصعيد
تعثر الاتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير بشأن تشكيل مجلس السيادة، بسبب تمسك كل طرف بالأغلبية في المجلس والرئاسة، ليعود التوتر للمشهد السياسي بعد أن لوحت فصائل من قوى الحرية بالتصعيد. فيما أعلنت عشرات المؤسسات الحكومية والشركات استعدادها للدخول في إضراب عام عن العمل إلى حين الاستجابة لمطلب الحكومة المدنية. في المقابل لجأ المجلس العسكري لفك تجميد النقابات والاتحادات، ملوحا في الوقت ذاته بإجراء انتخابات مبكرة.
المجلس السيادي.. عقدة المنشار
المفاوضات بين المجلس العسكري الانتقالي وقادة الاحتجاجات تعثرت بسبب الخلاف بشأن مجلس السيادة المقترح لإدارة المرحلة الانتقالية، وتريد قوى الحرية والتغيير أن تكون أغلبية المجلس ورئاسته للمدنيين، في حين يرفض العسكر ذلك.
في التفاوض كان السقف الأعلى للمجلس العسكري 7 عسكريين زائد 3 مدنيين برئاسة عسكرية، في المقابل طرح إعلان الحرية والتغيير 8 مدنيين و3 عسكريين ورئاسة مدنية، وبعد النقاش والتداول تنازلت قوى الحرية لتكون النسب 6+5 ورئاسة دورية، إلا أن العسكري رفض.
في الأثناء تجري مشاورات لوضع الرئاسة مقابل الأغلبية لتجاوز هذه العقبة، حتى لا ينهار التفاوض وينتقل الطرفين لخيارات تصعيدية.
المحلل السياسي عمار عوض يرى في حديثه لـ(السوداني) أن أقصى تنازل يمكن أن تقدمه قوى الحرية هو 6+5 بحيث تحتفظ بأغلبية رمزية ورئاسة دورية للمجلس، لافتا إلى أن الضغط الشعبي في الميدان لن يقبل بأقل من ذلك مما يهدد بفقدان قوى الإعلان السند الجماهيري.
ويطرح عوض صيغة توافقية لمسألة الأغلبية تتعلق باتخاذ القرار بأغلبية الثلثين بما يضمن أغلبية غير محسوسة بشكل عددي، فيما يقترح أن تبدأ الرئاسة الدورية بالعسكريين لمعالجة الملفات الأمنية وإيقاف الحرب بتحقيق السلام مع المتمردين.
في وقت سابق، اتفقت قوى الحرية والمجلس العسكري على كامل صلاحيات مجالس السيادة والوزراء والتشريعي والاتفاق على فترة انتقالية لمدة 3 سنوات ومجلس تشريعي من 300 عضو بنسبة 67% لقوى الحرية والتغيير و33% للقوى الأخرى، وذلك بالتشاور بين مجلس السيادة وقوى إعلان الحرية والتغيير، ولم يتبقَّ من ترتيبات الفترة الانتقالية سوى تشكيل المجلس السيادي فبات أكثر النقاط صعوبة في ظل تباين وجهات النظر بين الطرفين حول نسب تكوين المجلس ورئاسته.
وربما حددت الصياغة النهائية حول صلاحيات هذا المجلس -التي لم يعلن عنها بعد- شكل أي اتفاق في الطريق بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، حول نسب كل منهما في المجلس السيادي، وإلى من تذهب رئاسته.
صلاحيات السيادي.. الاتفاق المحسوم
وبحسب قوى الحرية والتغيير، فإن صلاحيات المجلس السيادي الانتقالي التي نصت عليها وثيقة الإعلان الدستوري للتحالف هي ذات الصلاحيات التي سرت في آخر حكومة ديمقراطية (1986-1989).
ووفقًا لوثيقة الإعلان الدستوري التي تتبناها قوى التغيير، فإن سلطات المجلس السيادي تشمل رأس الدولة ورمز وحدتها، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، واعتماد تعيين مجلس القضاء الأعلى، واعتماد تعيين رئيس القضاء بعد اختياره بواسطة مجلس القضاء الأعلى.
كما شملت الصلاحيات اعتماد سفراء السودان في الخارج وقبول اعتماد السفراء الأجانب لدى السودان، وإعلان الحرب بالتشاور مع رئيس مجلس الوزراء، والتصديق على القوانين الصادرة من المجلس التشريعي، والأحكام النهائية الصادرة بالإعدام من السلطة القضائية.
ومنحت الوثيقة المجلس حق تعيين حكام الأقاليم بتوصية من مجلس الوزراء، على أن يؤدي رئيس مجلس الوزراء القسم أمامه وتصدر قراراته بأغلبية ثلثي الأعضاء.
سيناريوهات ومواقف.. حسابات تفاوضية
وفي التفاوض تتحدد الاستجابة بين المجلس العسكري وقوى الحرية مربوطة بمصلحة كل طرف، فقوى الحرية والتغيير تركز على الترتيبات المتعلقة بالحياة السياسية التي تمكن من تفكيك الدولة العميقة وإعادة إصلاح المشهد السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي وتجاوز تركة النظام البائد. وكشف تجمع المهنيين السودانيين عن أن منسوبيه مستعدون للإضراب العام والعصيان المدني الشامل، لكسر ما وصفه بـ(شوكة العسكر وإسقاطهم)، مضيفا أن (العسكر ماضون في طريق من سبقوهم بعدم التسليم والتعنت في التفاوض).
فيما قال المجلس العسكري إنه مستعد للتعامل مع كل الطوارئ.
وفي ظل حالة الشد والجذب بين الطرفين وإصرار كل منهما على التمسك بموقفه فهناك سيناريوهان أساسيان متوقعان بعد تعثر التفاوض: الأول يقوم على مواصلة التفاوض وإيجاد تفاهمات مقبولة من الجانبيين، أما السيناريو الثاني فيقوم على التصعيد والتصعيد المضاد.
رئيس لجنة أطباء السودان أحمد الأبوابي يرى في حديثه لـ(السوداني) أن مسارات التفاوض مع المجلس العسكري تقوم على ثلاثة مسارات: الأول يتعلق باستعداء المجلس وتحويله لخصم، أما الثاني فيتعلق بتحييده وتحويله لمتفرج سلبي للأحداث، أما الثالث فيتعلق بتحويله لشريك بكل القيمة المعنوية والمادية للشراكة.
الأبوابي يلفت إلى أن السودان يمر بمرحلة هشاشة، وهو ما يتطلب شراكة حقيقية من المجلس العسكري لمواجهة أعداء الثورة وتحديات المرحلة، داعيا للتعامل مع التفاوض بالخيارات بدلا عن الشعارات، مضيفا: “استعداء المجلس أو تهميشه ليس من مصلحة الثورة مما يستلزم اتفاق مُرْضٍ للطرفين”. الأبوابي يلفت إلى أن مسألة الرئاسة الدورية تبدو عملية.
قوى الحرية.. خيارات مفتوحة وحسابات حذرة
تدرك قوى الحرية والتغيير أنها لا تملك في حال التوصل لقناعات بفشل التفاوض سوى اعتصامها والإبقاء على جذوة التصعيد والتعبئة مشتعلة في الشوارع والأحياء، وقد دعا تجمع المهنيين في بيان صحفي لإسقاط المجلس العسكري الانتقالي واتهمه بعرقلة انتقال السلطة للمدنيين وبمحاولة إفراغ الثورة السودانية من جوهرها وتبديد أهدافها. وأشار تجمع المهنيين إلى أن المجلس العسكري ما يزال يضع عربة المجلس السيادي أمام حصان الثورة، ويصر على إفراغها من جوهرها وتبديد أهداف إعلان الحرية والتغيير وتحوير مبناه ومعناه، مضيفا: “إننا في تجمع المهنيين السودانيين نرى أنه لا مناص من إزاحة العربة لينطلق حصان الثورة نحو خط النهاية، فالمجلس السيادي الذي يشترط المجلس العسكري متعنتاً أن يكون برئاسة عسكرية وبأغلبية للعسكريين، لا يوفي شرط التغيير، ولن يعبِّر عن المحتوى السياسي والاجتماعي للثورة”.
وأعلن تجمع المهنيين بدء التصعيد مع المجلس العسكري وتحديد ساعة الصفر لتنفيذ العصيان المدني والإضراب الشامل، مشددا على مدنية السلطة بالكامل، لافتا إلى أن المكاسب الجزئية لن تكون مصدر رضا للشعب، بل ستكون سبب انتكاسة للثورة وخطوة مرتدة للخلف في درب التغيير الشامل.
ويقول القيادي الشيوعي وعضو فريق تفاوض قوى الحرية صديق يوسف، في حديثه لـ(السوداني)، إن قوى الحرية والتغيير لن تقبل برئاسة العسكر لمجلس السيادة بوصفه أمرا مرفوضا من الشعب والاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي.
وبحسب يوسف، فإن خيارات النضال ستكون مفتوحة أمامهم إذا ما تنصل المجلس العسكري عن الاتفاقات وأعاق نقل السلطة للمدنيين، مضيفا: “نضالنا كان ضد إسقاط البشير ونظامه وهو ما حدث، المجلس العسكري جاء في منتصف الطريق ولن يتحكم فينا ويحقق مكاسب على حساب الثورة.. لا رجوع للخلف ولا توقف حتى ننجز سلطة مدنية بقيادة قوى الحرية والتغيير”.
المحلل السياسي عمار عوض، يرى أن خيارات الحرية والتغيير تتعلق بإعلان العصيان المدني الشامل مع دخول قطاعات حيوية كانت خارج دائرة التصعيد السياسي إلا أن الأمر يحتاج لتوافق كل فصائل تحالف قوى الحرية والتغيير خاصة في ظل أحزاب ما تزال ترى إمكانية التوصل لاتفاق مُرضٍ.
أما رئيس لجنة أطباء السودان أحمد الأبوابي، فيرى أن خيارات المواجهة تبدو وافرة، مشيرا إلى أن هناك مؤشرات تدلل على أن تنفيذ عصيان مدني سيكون الأنجح في تاريخ السودان وهو ما يستلزم تمتين التنسيق والتحضير.
الأبوابي يرى أنه في حال اليأس من التوصل لاتفاق مُرْضٍ مع المجلس العسكري فلا بد لقوى الحرية من استكمال الهياكل واللجان ووضع الخطط والسيناريوهات المتوقعة للتعامل مع سيناريوهات التصعيد لتحقيق الجاهزية الكاملة.
عضو فريق التفاوض بقوى الحرية والتغيير مدني عباس مدني، يذهب في حديثه لـ(السوداني) إلى أن الآراء داخل التحالف تختلف بشأن تعثر المفاوضات مع المجلس العسكري سواء عبر تقديم تنازلات أو التصعيد للحصول على المكاسب كاملة، مؤكدا أن معيارهم في قوى الحرية لاتخاذ القرار يرتبط بالرضا الجماهيري بشكل أساسي.
خيارات العسكر.. بين التفكيك والتبكير
ثمة سؤال مركزي يتعلق بكيف يصف المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير ما حدث في الحادي عشر من أبريل؟ وإن كانت الإجابة كما هو شائع الآن بانحياز الجيش للثورة الشعبية أو أنه انقلاب عسكري، وبين الرغبة في الشراكة ومحاولة الانفراد بالسلطة تتحدد النظرة للمجلس العسكري خاصة أن بعض فصائل الحرية والتغيير لديها أزمة ثقة في نوايا المجلس العسكري.
المجلس العسكري يرغب في إدارة الفترة الانتقالية وفقا لميزان قائم على حجم وقوة التأثير –تدخله لصالح الثوار حسم الثورة- معتمدا على ركيزتين: الأولى ترتبط بقوة الاجهزة النظامية، وثانيها تمثيل الغائبين من المدنيين غير المنضوين لقوى الحرية للتفاوض نيابة عنهم، وهي ذات جانب تكتيكي تضاءل بعد طرح الصلاحيات على حساب الأنصبة.
ثمة سؤال يتعلق بمصالح المجلس العسكري الحقيقية التي تدفعه للتشبث بالسلطة وتتلخص في ثلاث نقاط: أولها عملية هيكلة القوات النظامية وما يتصل بكشوف الإعفاء والتعيين، وثانيها العلاقات العسكرية والأمنية الخارجية وما يتصل بالاتفاقات والالتزامات الدولية والإقليمية، وآخرها المصالح والمؤسسات الاقتصادية للقوات النظامية، بجانب ذلك ثمة أفراد داخل المجلس العسكري لديهم طموحات لحكم السودان ويسعون لتحقيقها بدعم إقليمي.
ما من شك أيضا في أن المجلس العسكري يتعرض لضغوط داخلية من أطراف داخل المجلس، فضلا عن قوى محسوبة على التيارات الإسلامية ترفض الاتفاقات بين العسكر وقادة المعتصمين، في مقابل ذلك ثمة ضغوط شعبية ودولية على المجلس العسكري لتسليم السلطة آخرها بيان دول الترويكا التي شددت على ضرورة الاتفاق سريع لنقل السلطة يعكس إرادة الشعب، محذرة من أن أي نتيجة لا تؤدي إلى أن عدم تشكيل حكومة بقيادة مدنية سيؤدي إلى “تعقيد التعامل الدولي” مع السودان، مشيرة إلى إدراكها أن للجيش دورا يؤديه في حماية أمن البلاد.
وقالت الترويكا إنه “في حال عدم تشكيل حكومة مدنية سيؤدي هذا إلى تعقيد التعامل الدولي وسيجعل من الصعب على بلداننا العمل مع السلطات الجديدة لدعم التنمية الاقتصادية في السودان”.
لذلك لا سبيل للمجلس العسكري في حال رغبته في الحصول على السلطة إلا بمشاركتها مع قوى الحرية والتغيير، أما في حال محاولة التشبث بالسلطة والاستقواء بقوى مدنية أخرى غير الحرية والتغيير، فإنه حينها سيعيد ما حدث للرئيس المخلوع مع العلم أنه سيكون متراجعاً عنه درجة تتصل بعدم الاعتراف بشرعيته.
المراهنة على الزمن
قد يراهن المجلس العسكري على عامل الزمن أو محاولة إحداث انشقاق في تحالف قوى الحرية ومشاركة الحكم مع فصيل، إلا أن ذلك لم يكن ناجعاً ولن تصمد الحكومة وقتها لأكثر من أسبوع أمام التظاهرات التي أن تركت لتمددت وإن قمعت لتكرر سيناريو المخلوع ثانية.
في حال مشاركة المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير –السيناريو الأرجح- فستكون هناك حالة من عدم الثقة بين الطرفين خاصة قدرة العسكر على الانقلاب عند أي منعطف أو مطب سياسي، أو تربص المدنيين بالعسكر لطردهم خاصة في ظل دعم دولي، وبين هذا وذاك يبقى تأثير فلول النظام السابق حاضراً وترقبهم لأقرب فرصة للانقضاض على الثورة والقضاء على المجلس العسكري وقوى الحرية بضربة واحدة.
الصحفي والمحلل عوض صديق يذهب في حديثه لـ(السوداني) إلى أن المجلس العسكري يعمل على شراء الوقت في انتظار بعض الترتيبات التي تهدف لإفراغ الاتفاق من مضمونه عبر تقليص حصة قوى الحرية في المجلس السيادي وإفساح المجال لقوى سياسية أخرى غير مشاركة في الثورة للحصول على حصص في المجلس التشريعي، وربما مجلس الوزراء ومحاولات استغلال التبايانات في الرؤى بين قوى الثورة لإضعافه عبر تفكيك التحالف.
ويشير صديق إلى أن المجلس العسكري لا يثق في قوى الحرية خاصة في ظل محاولة بعض القوى للضغط عليه وتخويفه من قوى الحرية وسيطرة اليسار على الحكم، لهذا عمد المجلس لإفساح المجال لأصوات أخرى ربما تشارك في الحكومة بشكل أو بآخر، أو ربما اكتفت بان تدعم العسكري في وجه أي حالة ضغط من قبل قوى الثورة.
ويواصل صديق تحليله ويقول إن العامل الآخر الذي يدفع العسكري للتمسك بنصيب الأسد في المجلس السيادي، هو التقاطعات الدولية والعربية على وجه الخصوص، والتي يمكن للمشاهد رؤية يدها وهي تعبث بالمشهد السوداني وتضغط في اتجاه أن يبقى المجلس العسكري أساسا ضمن أي عملية تغيير سياسي يشهده السودان، وربما يمتد تأثير هذه القوى العربية في فرض حلفائها من العسكريين حتى في بناء الفترة الديموقراطية ومستقبل السودان.
أما فيما يتعلق بخيارات المجلس العسكري في فض الاعتصام فتبدو مقيدة بضغوط دولية خاصة إلا أنه يمكن له المناورة بتكتيكات تُحدِثُ انقساماً في تحالف قوى الحرية.
كما يسعى المجلس العسكري لتقليل آثار أي إضراب أو عصيان مدني عبر قرار فك تجميد النقابات والاتحادات، كخطوة استباقية لضرب شرعية إعلان العصيان المدني باعتباره كقرار يصدر من الجمعيات العمومية، بجانب تكثيف التواصل مع أطراف سياسية خارج قوى الحرية لإيجاد سند سياسي.
بعض السيناريوهات الجانحة قد تمضي بالمجلس العسكري لمحاولة الانفراد بتشكيل حكومة انتقالية من قبل قوى مدنية داعمة له أو متحالفة معه ومحاولة إقامة انتخابات مبكرة قد تصل لستة أشهر أو عام.
بين هذا وذاك ما تزال مسارات التفاوض والتوافق تبدو الأقرب على الرغم من تمسك كل طرف بخياراته الأخرى، إلا أن لغة التفاوض والحوار تبدو الأنسب لتجاوز الامتار الأخيرة للعبور لبر الأمان، فقط على الطرفين أن يدركا أن عدم قبول المكاسب الجزئية مع عدم القدرة على الكلية تساوي خسارتهما.