رأي ومقالات

الظهور الأول لإبراهيم غنـدور.. قراءة ما بين السطـور


لم يفاجئني الاتزان الذي كسا وجه التصريحات التي قال بها رئيس حزب المؤتمر الوطني بروفيسور إبراهيم غندور، في أول ظهور علني له منذ عملية التغيير التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير ، فقد بدا غندور ( كعادته ) واثق النفس ، ممسكاً بتلابيب الكلام ، في تأدب جمّ وهـدوء جدِّي لا يخلو من مسحة ابتسام ، لم يُخرِج غندور أي ( زفرات حرَّى ) رغم المحاولات المتكررة لمذيع الحُرَّة ، كان غندور منطقياً في إجاباته ، واقعياً في إطروحاته ، الأمر الذي أفرغ الحوار من أي محتوى لإثـارة كان ينتظرها المشاهد من مسؤول يخرج للعلن بعد الإطاحة بحزبه واقتلاعه من كرسي سلطة جلس عليه ثلاثين عاماً.

استوقفني اعتراف غندور بأن التغيير الذي أطاح بنظام الرئيس عمر البشير ، كان ثورة جماهيرية انحازت خلالها المؤسسة العسكرية لرغبة الشعب ، وأن حزبه ( المؤتمر الوطني ) أسهم في التغيير ولم يُصادم توجهات الشارع ، وآثر الانسحاب حفاظاً على الوطن والأرواح ودماء السودانيين،، بيد أن قراءة متأنية في واقع الحراك الثوري تكشف التناقض الواضح ما بين حديث غندور ، وما جرى من محاولات مستميتة من قبل كتائب الظل المحسوبة على المؤتمر الوطني والتي حاولت مراراً وتكراراً أن تفضَّ اعتصام الثوار من أمام القيادة العامة للجيش ، وكادت أن تنجح في الأيام الأولى لو لا تصدِّي الشرفاء من ضباط وضباط صف وجنود القوات المسلحة الذين استبسلوا في الدفاع عن المعتصمين ، حتى تعرَّض بعضُهم للإصابة ، فيما تم إيقاف ووضع آخرين منهم في الحجز ، ولا ندري ماذا تم بشأنهم بعد نجاح الثورة ، وعـودة البلاد ، آبيةً ، حرة.

تصريحات بروفيسور إبراهيم غندور ، قد تكون منطلقة من رؤية العقلاء داخل المؤتمر الوطني ، ولكن أصابع بعض الصقور داخل الحزب ، حَّركت كتائب الظل ليلاَ في محاولات يائسة لفضِّ الاعتصام بالقوة ، وربما يكون الرئيس المعزول عمر البشير ، من كان وراء هذه التحركات ، استناداً على الإفادات التي أدلى بها لاحقاَ ، قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو حميدتي ، بأن البشير وجَّه اللجنة الأمنية برئاسة وزير الدفاع السابق عوض ابنعوف أن تفضَّ اعتصام الثـوار من أمام القيادة العامة بقوة السلاح.

حرص بروفيسور غندور على تقديم وجه جديد لحزب المؤتمر الوطني خلال المرحلة المقبلة القائمة على الحرية والعدالة والمساواة ، كان حاضراً في حواره مع قناة الحُرَّة ، إذ ركز رئيس الحزب على أن كل من ارتكب جرماً في حق الشعب السوداني يجب أن يُقدم للعدالة ولا يُمكن أن يُدافع المؤتمر الوطني عن فاسد أو مجرم،، تمنيت لو سادت هذه المفاهيم وطٌبَّقت خلال فترة حكم المؤتمر الوطني ، لكانت البلاد قد تجنبت الكثير من المزالق وخرجت من الضيق وشظف العيش الذي يكابده المواطن حالياً ، لقد كان شعار الإنقاذ في عهدها الأول ” لا فساد ولا إفساد ، الإسلام بالمرصاد “، فانتشر الإفساد حتى أرهق العباد، وعانى جسد البلاد من انتشار سرطان الفساد ، وانزوت القيم والمباديء التي نادى بها الإسلام ، فكان حتمياً أن يتحرك الشارع من أجل أن يغيًّر الواقع.

موقف بروفيسور إبراهيم غندور الرافض لوصف أيٍّ من داعمي الثورة من داخل المؤتمر الوطني بالخيانة ، لم يكن مستغرباً من رجل ظل يشتغل بالدبلوماسية والكياسة السياسية ، طالما أن حرية الرأي مكفولة للجميع ، فمن حق أي فرد أن يتخذ ما يراه مناسباً من قرارات ، ولم يكن الأمر حصرياً على قيادات المؤتمر الوطني التي دعمت الثورة وانحازت للثوار فحسب ، وإنما حتى بعض أحزاب الحوار الوطني اتخذت ذات الموقف بعد أن أدركت أن الطوفان قادم ، فغادرت سفينة الشراكة مع الحزب الحاكم وانتظرت على الرصيف تترقب قطار الثورة ، فقفزت على متنه ورفعت علامة النصر ورددت حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب.

تأكيدات بروفيسور إبراهيم غندور رئيس المؤتمر الوطني بأن حزبه بصدد مراجعة الأخطاء التي صاحبت تجربة الإنقاذ ، تمثل خطوة مهمة على طريق تصحيح المسار ليكون المؤتمر الوطني بالفعل حزباً قائد لواطن رائد ، ولا أعتقد أن المؤتمر الوطني تنقصه الشعارات الجوفاء ، التي لم تسمن ولم تغنِّ من جوع ، فلم يعد الشارع يثق في الشعارات الدينية التي كان قد رفعها الحزب خلال حكمه فحقق بها مكاسب دنيوية.

إن تجربة ثلاثين عاماً من الحكم تستحق الدراسة والتحليل ، ذلك أن المؤتمر الوطني مهما ارتكب في حق البلاد من جرائم وفساد ، يظل حزباً غنياً بتجربة غير مسبوقة في مضمار السياسة في المحيطين العربي والأفريقي وربما على المستوى الدولي ، فلا يذكر لسان التأريخ أن حزباً سياسياً بقي في سدة الحكم ثلاثين عاماً متتالية ، وهي فترة زمنية ينبغي لقوى إعلان الحرية والتغيير بوصفها الحاضن للحراك الثوري ، أن تُخضعها للتحليل العميق لاستقاء العظات بالاستفادة من الإيجابيات وتجاوز السلبيات ، ولا أعتقد أن رئيس الوزراء دكتور عبد الله حمدوك ، وبما يمتلكه من قدرات وإمكانيات وتجارب ، يمكن أن يدلف إلى أروقة مجلس الوزراء دون أن يكلف نفسه عناء البحث وسبر أغوار تجربة ثلاثين عاماً من حكم المؤتمر الوطني ، والعاقل من اتعظ بتجربة غيره.

إسماعيل جبريل تيسو