عن فيلم “ستموت في العشرين”
ماذا لو عرفت منذ تفتح وعيك أنك سوف تموت في سن قريبة؟ ما الذي كان يمكن أن تفعله في حياتك، لو علمت أن زمن بقائك على قيد الحياة لا يتعدّى عشرين عاما؟ هل كان ثمّة ما سيتغير؟ هذا السؤال هو ما كان يفترض أن يبحث فيه الفيلم السوداني “ستموت في العشرين”، لولا أن كاميرا مدير التصوير الفرنسي، سيباستيان جوبفيرت، أغوت المخرج أمجد أبو العلا، فطغت الصورة السينمائية الساحرة فعلا على وقائع القصة، وعلى البعديْن، النفسي والزمني، لسؤال الموت.
يولد مزمل لأبوين يعيشان في قرية فقيرة، يميل سكانها إلى الدروشة والتصوف. وحين يذهب الأبوان به إلى شيخ القرية لمباركته، تصدمهما النبوءة بأنه سوف يموت في العشرين. يكبر مزمل، وهو مؤمن بأنه سوف يموت في العشرين. ويتعامل الجميع معه بناءً على هذه النبوءة، حتى أنه يعاني من تنمّر أبناء القرية ممن هم في جيله بسببها، فيطلقون عليه لقب “ابن الموت”، ويحاولون التسبّب في إيذائه، وكأنهم يريدون استعجال تحقق النبوءة. أما والد مزمل فيستسلم لما سمعه كما لو أنه حقيقة، ويجد نفسه عاجزا عن فعل أي شيء لإيقاف نبوءة الموت لولده سوى الهرب إلى أديس أبابا بذريعة البحث عن عمل. ترتدي والدته الأسود منذ لحظة سماعها النبوءة، وتعيش حياتها في حالة الحداد على ولدها الذي يعيش معها بحياة متعطّلة، تمر أوقاتها وساعاتها ولياليها من دون أن يحدث شيء مهم، لا في حياتها ولا في حياة مزمل، سوى حبه نعيمة التي تتزوج شابا غيره، بعد أن عجزت عن إقناعه بأن ينسى النبوءة ويعيش طبيعيا. وسوى تعرّف مزمل على إسماعيل، الرجل الوحيد في القرية الذي يعيش خارجا عن تقاليدها وعالمها. يصبح إسماعيل العالم الوحيد لمزمل، بيته وذاكرته وسردية حياته، حتى المرأة التي يعاشرها، يرثها مزمل بعد وفاة إسماعيل الذي حاول جاهدا إقناع مزمل بنسيان النبوءة والانغماس في الحياة، ليموت هو قبل أن يتم مزمل عشرينيته بوقت قليل جدا.
حصل الفيلم على أكثر من جائزة دولية، جديدها جائزة مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثالثة لأفضل فيلم روائي طويل، ولاقى استحسانا كبيرا من مشاهديه. وهو للحق فيلم ممتع جدا على المستوى البصري، إذ حملت الكاميرا الثقل الكبير في نجاحه، إضافة إلى شعرية رؤية المخرج في انتقاء أماكن التصوير وزاوية اللقطات السينمائية، غير أن الفيلم لم يستطع أن يقدّم لي، كمشاهدة، أية رؤية، لا قديمة ولا جديدة، عن فكرة الموت والزمن والعلاقة بينهما، أو فكرة الموروث الشعبي وعلاقته بسيرورة حياة الأفراد. النبوءة والموت، هما المحوران الأساسيان في الفيلم، غير أن الفيلم سار بمشاهده بعيدا عنهما.
خرجت من مشاهدتي الفيلم وأنا مبهورة به، ودافعت عنه دفاعا شرسا في نقاش مع أصدقاء كانت لهم ملاحظات عليه. لكنني بعد حين، وأنا أسترجع تفاصيله، انتبهت إلى بعض صوابية في رأي أصدقائي عنه، فبرأيهم السينما ليست فقط مشهدية بصرية ومدير تصوير عبقري ومخرجا يحسن تحديد زوايا اللقطة واختيار أماكن التصوير، السينما أيضا موضوع وإدارة ممثلين وكسر رتابة الواقع عبر الإيحاء الفني، وتقديم أسئلةٍ لا يشترط أن تكون كونية، لكن أسئلة موازية لسويّة الصورة ومحرّضة للروح والعقل معا. بينما أعتقد، وأنا مجرّد متابعة عادية للسينما، أن المهم في العمل السينمائي هو المتعة البصرية والروحية التي يقدّمها. وللحق، خرج أغلب من شاهدوا الفيلم منه وهم يشعرون بمتعة أن تشاهد عملا سينمائيا جميلا. على الأقل هذا ما سمعته من كثيرين، مشاهدين عاديين ومختصين، وهو ما قرأته في مقالات عن الفيلم الذي يكفيه أنه أثار نقاشا كثيرا لصالحه، ولصالح السينما السودانية التي تمشي بقوة نحو التنافس في المهرجانات الدولية، متخطية سينما “المراكز”. ولعل اللحظة الأكثر إثارة أتت بعد الفيلم، حين صعد صنّاع الفيلم وأبطاله على منصة “الجونة” لاستلام الجائزة، وهم يطلقون زغرودة سوادنية مبهجة، كما اللون الأزرق الذي كانوا جميعا يرتدونه من أجل سودان حر وجديد.
رشا عمران ـ العربي الجديد