مثل البشر.. القردة قادرة على توقع أفعال الآخرين
هناك نظرية في العلوم الإدراكية تسمى “نظرية العقل”، وهي تسمح للشخص أن يضع نفسه مكان شخص آخر ويتنبأ بأحاسيسه وأفعاله، ولكن لا يزال التساؤل عما إذا كنا نتشارك -نحن البشر- هذه الموهبة مع “الرئيسيات” الأخرى من عدمه موضعا للنقاش.
حاول العلماء الإجابة عن هذا السؤال لعقود طويلة دون جدوى، لكن دراسة جديدة، نشرت في دورية “بروسيدنجز أوف ذي ناشونال أكاديمي أوف ساينسيز” في 30 سبتمبر/أيلول الماضي، أضافت مزيدا من الأدلة على أن القرود قادرة على توقع تصرفات الآخرين بناء على تجاربها الخاصة بطريقة تشبه إلى حد كبير ما يمكننا فعله.
نظرية العقل
تتمثل نظرية العقل بالقدرة على تفسير أو توقع أفعال شخص آخر بشكل تلقائي، ويمكن أن يتصور الشخص نفسه في “أماكن أشخاص آخرين” للفهم والتنبؤ بأحاسيسهم وأفعالهم.
من المعلوم أن هذه النظرية جوهرية للحياة اليومية الاجتماعية البشرية إذ إنها أساسية لفهم وإدراك وتحليل، واستنتاج سلوكيات وتصرفات الآخرين، وهي مناقضة تماما للعمى العقلي، الذي يصنف بأنه اضطراب يصيب بعض المرضى بطيف التوحد، والفصام، واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط.
هناك كثير من الأسباب الوجيهة للشك في أن القردة العليا والقردة الأخرى قد تملك على الأقل بعضا من السمات المميزة لنظرية العقل، ناهيك عن بعض الببغاوات والغربان.
لقد كنا نفكر في هذا السؤال لعقود، مع أنه ليس هناك نقص في الأبحاث المكرسة لحل مسألة ما إذا كان -أو إلى أي مدى- يمكن للحيوانات الشعور بالسلوكيات المحتملة للآخرين.
تجربة رائدة
في هذه الدراسة الرائدة، دمج باحثون من جامعة كيوتو في اليابان، وجامعة سانت آندروز في المملكة المتحدة تجارب علم النفس الحيوانية الكلاسيكية لتحديد ما إذا كانت القردة العليا يمكنها التنبؤ بتصرفات الإنسان عن طريق التخمين.
ومزج الباحثون جوانب من تجربة “النظارات الواقية” الكلاسيكية مع بحوث سابقة أجروها واستخدموا فيها سلوكيات استباقية غير متوقعة للقرود.
الدراسة التي أجريت على القردة العليا أكدت أنه من الصعب القول إن البشر هم الكائنات الوحيدة القادرة على التخمين ( بيكسابي)
تم عرض مقطع فيديو قصير لإنسان يراقب ممثلا يرتدي زي قرد ويضع جسما في صندوق على عينة من الحيوانات (29 من الشمبانزي، و4 من إنسان الغاب، و14 من البابون أو الرُّبَّاح قرد من القرود البدائية الكبيرة). وعندما تم إخفاء الجسم عن الأنظار، اختبأ الإنسان وراء شاشة بينما أتم الممثل نقل الجسم إلى صندوق ثان، قبل إزالته تماما.
وتضمن العرض عودة المراقب البشري إلى الصناديق ومد يده نحو نقطة في منتصف الطريق بين مكاني الاختباء المحتملين.
قبل مشاهدة الفيديو، كان نصف القردة قد شاهدوا شاشة مماثلة شفافة. ومن الناحية النظرية، كان يجب على كل قرد أن يفترض أن الشاشة في مقطع الفيديو كانت تقريبا هي الشاشة نفسها التي شاهدها من قبل.
الاستنتاج المثير للقرد الذي شك في بطل القصة (الممثل) لم ير أن إزالة الجسم تستدعي النظر نحو بقعة الاختباء الأصلية، وهي المكان الذي شاهده المراقب لآخر مرة. وعلى المنوال نفسه، إذا افترض الجمهور أن الشاشة شفافة، فإن نظرية العقل من المفترض أن تقول إن الشخص على علم بأن الجسم لم يعد موجودا، ولذلك فإن القرد ليس لديه سبب للنظر إلى أي بقعة أخرى.
كابوس فلسفي
سمحت تقنية تتبع العين للباحثين برصد ما كانت تبحث عنه القرود على وجه التحديد، والكشف عن وجود تحيز كبير من النظرات العصبية الخاطفة تجاه الهدف (صندوق الاختباء) عندما كان من المفترض أن يكون قد تم حظر خط المراقب عن الأنظار.
كتب الباحثون في نهاية ورقتهم البحثية “في الختام، نحن نقدم الدليل على أن القردة يمكنها استخدام خبراتها البصرية السابقة، وربما ما ينتج عن ذلك من معتقدات، في عملية الإدراك الحسي للآخرين”.
وتشير الدراسة إلى أنه حتى الحيوانات التي تبدو متوسطة الذكاء يمكن أن تكون لها قدرة خارقة لتبدو فائقة الذكاء من خلال قراءة تلميحات خفية في بيئتها، وأن المفاهيم النفسية مثل نظرية العقل يصعب إثباتها باستخدام تجربة واحدة، لأن هناك كثيرا من المتغيرات التي تحتاج إلى تسوية، ولا تزال هذه النظرية تمثل كابوسا فلسفيا.
ونظرا لتزايد البحوث التي تدرس هذا الموضوع من زوايا مختلفة، أصبح من الصعب على نحو متزايد القول إن البشر هم الكائنات الوحيدة القادرة على التخمين لأفعال الآخرين، اعتمادا على افتراض حالتهم المعرفية.
ويجب على الباحثين إيجاد طرق جديدة ذكية لإجراء التجارب المعماة التي تختبر الحيوانات، بعيدا عن المتغيرات الأخرى التي قد تدلهم على تصرفات المحيطين بهم عن غير قصد.
المصدر : الجزيرة