ناهد قرناص: الجمهور عايز كدا
ارسلت لي صديقة رسالة حزينة ..حكت انها ذهبت لمواساة زميلة لها في العمل توفى عنها زوجها واكملت اشهر الحداد ..وكان ذلك يوم خروجها من (الحبس) ..تقول انها تفاجات بمظاهر الاحتفال في البيت ..اكل على نظام البوفيه المفتوح ..البيت مفروش باجمل الملاءات ..والازدحام على اشده من الصديقات والجارات والقريبات ..صديقتنا قالت انها همست لصديقة ثالثة ( الزولة دي ما باقي ليها الا التحلية ) ..فاذا بالصديقة تلفت نظرها الى طاولة كاملة فيها مالذ وطاب من أنواع (المدايد) ..وطاولة اخرى بها حافظات الشاي والقهوة بانواعهم المختلفة مع اجود انواع التمر والمكسرات ..صديقتي صاحبة الرسالة قالت ان الامر كان أشبه باحتفالات الخريج والزخم الذي يصاحبه وختمت رسالتها قائلة ..يا دكتورة شكلنا بعد دا حنبقى في تخريج الأرامل.
رسالتها ذكرتني ان قريبة لي التقتني في مناسبة للأهل ..فخاطبتني قائلة (يا ناهد ما تنسي الجمعة الجاية الفطور عندنا ) ..اذكر انني قلت لها (ما شاء الله في شنو ؟) ..ظهر على وجهها علامات العتاب وردت (غايتو بالغتي ..امي حتطلع من الحبس وعاملين كرامة فطور ..ضابحين لينا خروفين ان شاءالله )..الحقيقة ان الامرين أعلاه ادخلوني في حالة من الذهول لا استطيع وصفها ..كما ان احدهم قد ضغط على زر ( pause) ..ما الذي يحدث عندنا والى اين تتجه بنا حافلة (الشو ) والبوبار والمحاكاة ؟ ..الظواهر المجتمعية والممارسات التقليدية لماذا نمارسها دون تفكير وبتغييب عقلي كامل ؟ نمارسها تحت بشعار ( الجمهور عايز كدا) والناس حيقولوا شنو كان ما عملنا كدا! .. نكمل الطقوس دون تفكير ..بغض النظر عن حالنا ..وهل الامر يناسب القدرة المادية والمعنوية لنا…ام لا ؟
صديقتي صاحبة الرسالة اخذت الامر من ناحية استنكار الاحتفاء في موضع هو اقرب للحزن منه للفرح ..وكتبت تقول (هل هانت عشرة ذلك الرجل على زوجته حتى تحتفي هكذا بموته ؟ الم يكن صديقا ورفيق درب ؟ اليس هو والد الأبناء والمتكأ في كل تعب ؟ ) ..طبعا هناك أكثر من أمراة سترد على هذه المداخلة بأن الرجل الذي تموت زوجته يتزوج عليها بعد مرور يومين (وبعضهم لا يتورع عن اقامة احتفال لذلك لكن تلك قصة اخرى) …. ..لكنني اخذت الامر من ناحية اخرى تماما ..(ما قلت ليكم عقلي توقف عن التفكير ) ..هناك ظاهرة مجتمعية في طريقها للتكون يا قوم ..وستصبح عما قريب شئ لازم وملزم ..كما صار فطور العريس وموية رمضان ..وحنة الخريج ..وحاجات وشنو .وشنو ..واعتقد ان كل الامور الصعبة في تقاليدنا السودانية الخاصة بالزواج والموت وكل المناسبات ..كانت في بدايتها على هذا النسق ..واحدا او واحدة (طقت في بالهم ) ان يعملوا تغيير وياتي بشئ لم يأته الاولون ..فاستن سنة في الآخرين ..و(اتدبسنا ) فيها نحن .
المشكلة الاساسية فينا نحن يا سودانيين هو ذلك الشغف الكامن فينا لمشاركة الأحداث مع بعضنا البعض ..لازم تعزم اكبر كمية من الناس لمشاركة الفرح او مشاطرة الاحزان ..وفي سبيل ذلك لازم تعمل حاجة مختلفة حتى يسير بذكرك الركبان …وبالتالي الاشياء التي كانت بسيطة وجميلة وتعبر عن التعاون والتكاتف في المجتمع السوداني ..صارت ثقيلة على القلب والجيب ..الزواج الذي كان يتم بالقليل ويباركه القاصي والداني ..صار هما بالليل ودينا بالنهار ..حتى دخلت البنوك فيه واصبح احد بنود التمويل تجهيز شيلة الزواج ..الموت سنة الاولين والآخرين ..صار مسرحا للتنافس والتباهي ..تجد فيه افخم الخيم ..واشهي الاكلات والمشروبات واجمل انواع الثياب والعمم الفاخرة ..ها قد اظلنا زمان احتفالات تخريج الارامل ..وسنسمع عما قريب عن اعلانات اقامة مناسبات الخروج من الحداد ..وما بعيد يحدث تدخل شركات المناسبات في الامر ..ونسمع عن كروت الدعوة والعزومة عشاء ولا فطور ..باقي لينا شنو يا جماعة ما عملنا ليهو طقوس ؟ .
ناهد قرناص