نوادره لا تزال تثير الجميع .. جحا حي يرزق في شوارع إسطنبول
قبل عقود طويلة مضت، ذاع صيت نصر الدين هوجا (أو خوجا) المعروف باسم “جحا” في المشرق العربي بالطريقة ذاتها التي عرف فيها بأدب أطفال العثمانيين، لكن جحا نفسه ما زال حيا يرزق في شوارع إسطنبول من خلال تقمص بعض الأشخاص لهذه الشخصية، وما زالت نوادره تثير اهتمام الكبار والصغار رغم اختلاف الأزمان.
ففي محيط بازار “كايا شهير” بمدينة إسطنبول حضر جحا بين الناس بـ”لحمه ودمه” وجمازته الخضراء (جبة من الصوف) وعمامته الكبيرة حاملا سبحته الضخمة التي انتشرت صوره معها في كتب الحكايات، وتجمع حوله الأطفال للاستماع إلى نوادره الفكاهية التي تحمل الكثير من العِبَر المستترة بين سذاجة ما يروي من قصص وروايات.
الحكمة والخلود
قال جحا في رد على سؤال الجزيرة نت بشأن سبب عودته للحياة، “أنا لم أمت أصلاً حتى أعود” قبل أن يشرح الكثير من القيم التي يمكن تلخيصها في أن حياة الإنسان تبدأ بعد موته حين يترك ذكرا طيبا في العالمين.
وبدت شخصية الرجل منسجمة تماما مع شخصية جحا التي يتقمصها، فهو يتقن التنقل بين سطور القول لينقلك من عالم الفكاهة إلى حيز العِبَر التي يثبتها في الخواتيم حتى حين سألناه عن اسمه الحقيقي اكتفى بالقول، “أنا نصر الدين هوجا.. ألا تعرفونني”.
وروى جحا التركي أنه استعار ذات يوم من أحد جيرانه المعروفين بالجشع وعاء ماء فارغا لكنه أعاده له مع وعاء أصغر، وعندما سأله الجار عن الوعاء الصغير، قال له إن الوعاء كان حاملا حين استعاره وأنه قد وضع وليده في بيته فأعادهما معا.
وبعد عدة أيام، عاد جحا إلى جاره فطلب الوعاء منه مجددا، ففرح الجار علّ جحا يعود له مرة أخرى بوعاء جديد لكن جحا لم يُعد الوعاء هذه المرة لجاره الذي طال انتظاره حتى سأله عن سبب تأخره، فأجاب، “لقد كان وعاؤك مريضا فمات عندي”، فرد عليه الجار، “وهل يموت الوعاء؟؟”، فأجاب جحا ساخرا، “الوعاء الذي يحمل ويلد يمرض ويموت”.
ويقول الرجل إن في هذه الحكاية عِبَرا كثيرة في مقدمتها تطبيق للمثل القائل، “لا تصدق ما لا يقبله العقل”. كما أن فيها حثا للإنسان على الاستعداد لدفع ثمن سوء نواياه كما يدفع الثمن عن سوء أفعاله.. هذا ما حصل مع الجار.
مدرسة تعليمية
يتعرض طلبة منهاج تدريس اللغة التركية لقصة ملهمة عن نصر الدين هوجا الذي يبلغه جاره أنه يريد أن يستعير منه حماره “كاراكاتشان” فيخفيه جحا عن ناظريه، وحين حضر الجار سأل جحا عن حماره فأخبره أنه مات لكن الجار لم يصدق رواية نصر الدين وأخذ يسأل أفراد عائلته دون أن يجيبه أحد حتى علا صوت نهيق الحمار من داخل حظيرته فقال الجار لجحا، “هذا صوت كاراكاتشان فكيف تقول إنه مات؟”، لكن جحا أجابه مستنكرا “هل تصدقني أم تصدق الحمار؟”.
وكما هي الحال في الثقافة العربية، فإن قصص جحا وحكاياه ما زالتا تثير الضحك والفكاهة لدى متابعيه في تركيا خاصة عندما ترتبط بكاراكاتشان الحمار الذي بالكاد لا تجد طفلا تركيا لم يسمع عن حكاياه.
ويقال إن كاراكاتشان ضاع ذات يوم فأقسم نصر الدين أن يبيعه بدينار واحد إن وجده، فلما وجده أوفى بوعده بطريقة خبيثة وربط برقبة الحمار قطا وعرض الحيوانين للبيع بسعر دينار للحمار ومئة دينار للقط مشترطا أن يتم شراؤهما معا.
ورجحت المصادر أن شخصية جحا التاريخية حقيقية وتعود لواحد من رجلين، أحدهما التركي نصر الدين هوجا -الأستاذ نصر الدين- والثاني هو أبو الغصن بن ثابت اليربوعي البصري وينسب إلى قبيلة فزاعة.
وولد نصر الدين هوجا في قرية حورتو بمنطقة سيفير حصار بولاية إسكيشهير في عام 1208، وكان والده عبد الله أفندي يعمل إماما لمسجد القرية أما والدته فكان اسمها صديقة.
قيمة أدبية
تلقى نصر الدين هوجا تعليما شرعيا دينيا على يد مجموعة من الأئمة في كتاتيب قريته وأصبح إماما بمسجدها بعد وفاة أبيه، ويقال إنه عمل قاضيا بينما تقول المراجع التركية إن الحقائق اختلطت في سيرة حياة الرجل بالأساطير والشائعات بسبب شهرته ومحبة الناس له، إذ يقال إنه التقى سلاطين السلاجقة وكان على علاقة بكبير الأئمة الصوفيين “مولانا” جلال الدين الرومي.
وتقول الباحثة في الأدب التركي بجامعة إسطنبول آيدين أونور حقي ألب للجزيرة نت، إن قيمة شخصية جحا التركي تحمل ثلاثة أبعاد، أولها سمعته التاريخية كأعظم رجل جمع بين الفكاهة والحكمة في الأناضول وتعلق الأطفال بما حملته قصصه من خيال ومغامرة ومرح.
ويكمن ثانيها -وفقا للباحثة- في توثيق كيفية حياة شعب الأناضول في الحقبة التاريخية التي عاشها بعدما عبر عن اهتمامات ذلك الجيل وأدواته، بعناصر الضحك ورموز السخرية وقيم المدح والذم.
أما الثالث، فيتمثل في انسجام كافة رموز عصره مع قيم التدين الإسلامية التي كانت تعد مرجع حياة الناس رغم تردي ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية مع بدء غروب عصر الدولة السلجوقية.
الجزيرة نت