رأي ومقالات

ناهد قرناص: بيت بورتسودان القديم


الغرفة التي سكنتها الايام الفائتة في مدينة بورتسودان كانت تطل على بيت قديم ..مساحته كبيرة ..محاط بمجموعة من النباتات العشوائية التي قامت دونما اذن من احد ..وجدت ارضا خالية فاعملت جذورها في الأرض ورفعت افرعها الى السماء ..كنت كلما وضعت رأسي على الوسادة ليلا ..احس كاني اسمع ذلك البيت يئن او يبكي ..احاول الانصات برهة .. يجيبني الصمت وصدى انفاسي..

عندما امر بمحاذاته نهارا ..اراه شامخا كجندي عجوز ..احيل الى التقاعد ولا يزال يرى في نفسه القوة والقدرة على القتال ..البيت هيئته تدل على مجد غابر ..طريقة بنائه ..وتعدد غرفه وموقعه قريب من ساحل البحر الاحمر ..ترى ماذا حدث لاهله ؟ هل بقى منهم من احد ؟ لماذا تفرقوا عنه وتركوه قائما وحيدا تحكي جدرانه الحزن ومر الأسى ..سألت عنه ..كانت الاجابات مختلفة ..قيل لي انه كان منزل احد الأعيان ..رواية اخرى انه كان منذ عهد الانجليز ..رواية ثالثة انه كان مبنى حكومي ..انظر الى قسوة الامر لا احد يدري عنك شيئا رغم قرب التاريخ ..ماذا يحدث اذا مرت عقود ؟؟ ..تعددت الروايات ..والهجر واحد.

تذكرت زيارتي لبيتنا القديم في عطبرة ..الحقيقة انني كنت اتحاشى زيارته كلما اخذتني قدماي الى عطبرة ..اخاف ان امسك بمقبض الحنين فتنفتح الذكريات الموجعة دفعة واحدة في وجهي ..لكنني تشجعت فى المرة الاخيرة قبل أشهر برفقة اختى ..وذهبت الى هناك .. حائط بيتنا بدا لي قصيرا بعض الشئ او انه خيل الي هكذا ؟..هل ترى انكمش البيت بأكمله ؟..راودني خاطر غريب ان بيتنا منكفئ على ذاته ..كأن هناك ما يؤلمه ……لمحت تذكارا صغيرا على الجدار بخط اخي مصطفى ..بقى الخط المتعرج في مكانه ورحلنا نحن ..عندما خرجت في نهاية الزيارة..كانت هناك غصة في حلقي ..ودموع اجتهدت في حبسها ..واقدام متهالكة لم تساعدني على التجوال بحرية..احسست حينها كان بيتنا يعاتبني ..ويسأل عن الغياب ..عن ابي وامي الراحلين ..عن اسباب التخلي عنه وهو لا ذنب له فقد كان طوال عمره محافظا علينا يحطينا بدفء ومحبة ..ويبعد عننا نظرات المتطفلين.

هل للبيوت ذاكرة ؟ هل تحس مثلنا بالهجر ونكران الجميل ؟ هل تشكو اللوعة وألم الفراق لاحبة غادروا ولم يكلف احدهم نفسه عناء الالتفات للوراء لحظة ؟؟ لا اجابة عندي ولا حتى ملمح للتفكير ..لكن البيوت القديمة تثير في داخلي شجونا وشؤون ..بيت مثل الذي رأيته في بورتسودان ..كان يمكن ان يكون متحفا ..او كلية ..او فندقا كلاسيكيا بخلفية تاريخ البجا الممتد عميقا في التاريخ وحضارتهم المنسية التي لا يعلم الكثيرون عنها شيئا ..كان يمكن ان يكون اي شئ ..الا الذي فيه هو الان ..ولو كان الامر بيدي لرفعت صوتي في المدائن قاطبة ..من لتلك البيوت القديمة الساحرة التي تحوي المجد بين جنباتها ..وتخفي الكثير من الأسرار الخفية ..من ؟ لماذا تاخذنا اللحظات الحاضرة دائما وتخطف ابصارنا بريقها ..فتعمى قلوبنا عما بأيدينا من جمال واصالة وتاريخ تليد ؟

ها انا اغادر بورتسودان وانا مثقلة المشاعر ..والبيت من خلفي اتحاشى النظر اليه ما استطعت الى ذلك سبيلا ..لكن قلبي يختلس النظر ويغالب الحنين ..ما الذي بيدي فعله لانقاذك ؟ وكلمات الراحل بازرعة تضج في عقلي ( لمتين يلازمك في هواك مر الشجن) .

ناهد قرناص