سياسية

الترتيبات الأمنية: معضلة مفاوضات الحكومة السودانية والمتمردين


دخلت مفاوضات السلام بين الحكومة الانتقالية في السودان ومتمردي تحالف الجبهة الثورية مرحلة النظر في ملف الترتيبات الأمنية، التي قد تكون الأصعب من بين الملفات التي أنجز الطرفان تفاهمات واسعة في كثير منها، منذ انطلاق مفاوضات السلام في ديسمبر/ كانون الأول الماضي بعد توقيع اتفاق إعلان مبادئ في سبتمبر/ أيلول الماضي. وللمفاوضات مساران، الأول مع الجبهة الثورية، وهي تحالف يضم عدداً من الحركات المسلحة تقاتل في إقليم دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان. ومن أبرز تلك الحركات، العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، وتحرير السودان بزعامة ميني أركو ميناوي، والحركة الشعبية قطاع الشمال، فصيل مالك عقار. أما المسار الثاني، وهو منفصل تماماً عن المسار الأول، وفيه تتفاوض الحكومة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، فصيل عبد العزيز الحلو، وهي الحركة التي تُصنف على أنها الأقوى على مستوى وجودها في الميدان وسيطرتها على أجزاء واسعة من إقليم جنوب كردفان. ومن اللافت حتى الآن أن التفاوض معها لم يتقدّم مطلقاً ولم يحقق أية تفاهمات عملية، في ظل تمسك الحركة بمبدأ علمانية الدولة عبر فصل الدين عن الدولة. وتقترح الحركة، في حال عدم القبول بذلك، القفز مباشرة لمناقشة تقرير المصير لكل من منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، باستفتاء سكانهما ما بين الانفصال أو البقاء في الدولة السودانية، في حين رفضت الخرطوم تلك المقترحات وبقي التفاوض مجمّداً طوال الأشهر الماضية من دون إعلان فشله بصورة نهائية.

وعلى العكس بالنسبة إلى المسار الأول الخاص بالجبهة الثورية، فإن حوارها مع الحكومة بلغ مراحل متقدمة، مع توصل الطرفين إلى تفاهمات نهائية بشأن حل ملفات مناطق وسط وشرق شمال السودان، بالاتفاق على حل المشكلات هناك وغالبها خدمية وتنموية. أما في ما يتعلق بملف إقليم دارفور، فيبدو الأمر معقّداً، في ظلّ الاضطراب الأمني هناك منذ عام 2003 وتدويل القضية بفعل صدور سلسلة قرارات من مجلس الأمن الدولي إثر الاتهامات بوجود جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، عطفاً على مقتل أكثر من 20 ألف شخص، ونزوح ولجوء ما يزيد عن مليونين آخرين، طبقاً لتقديرات الأمم المتحدة. وبموجب كل ذلك توصلت الوفود المفاوضة إلى اتفاقيات حول العدالة الانتقالية، وملكية الأرض في الإقليم، وأسس توزيع الثروة، والعودة إلى نظام الحكم الإقليمي بدلاً من نظام الولايات، على أنه تبقى هناك بنود عدة للاتفاق عليها، ومنها المشاركة في السلطة، وملف الترتيبات الأمنية، عدا النقاش حول القضايا القومية مثل الدستور القومي والإصلاحات القانونية.

ويوم الخميس الماضي، أعلن مختلف الأطراف انطلاق المحادثات حول ملف الترتيبات الأمنية الخاصة بمسار دارفور، المقرر أن تستمر نحو 10 أيام. وبحسب كل المؤشرات، فإن مناقشة الموضوع ستكون اختباراً جدياً للطرفين لصعوبته، وارتباطه بمستقبل عناصر الحركات المسلحة، والأهم ارتباطه بهيكلة القوات المسلحة السودانية من جديد، وإعادة تشكيلها على أسس جديدة، تعكس التنوع السوداني في تجلياته الجهوية والثقافية والدينية. مع العلم أن الحكومة، تحديداً مكوّنها العسكري، موافقة على مبدأ فكرة إعادة الهيكلة، حسبما أعلن رئيس مجلس السيادة، القائد العام للجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الذي شدّد على سعي الجميع لإعادة صياغة الجيش وقوات الدعم السريع وفق المتطلّبات الحالية والمستقبلية، وبما يتوافق مع المهام المقررة، مشيراً إلى أن إعادة الترتيب والتنظيم تتوافق مع الدستور ومع متطلبات ومهام القوات خلال المرحلة الانتقالية.

في السياق، كشف المتحدث الرسمي باسم الجبهة الثورية محمد زكريا، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن التباين كبير في المواقف بشأن ملف الترتيبات الأمنية بينهم وبين الوفد الحكومي، معترفاً بوجود تعقيدات عديدة في الملف. وأضاف أن الموقف التفاوضي للجبهة الثورية في ما يتعلق بالترتيبات الأمنية يقوم على إعادة هيكلة الجيش والشرطة والأمن ضمن عقيدة عسكرية واحدة يكون فيها التعيين وفقاً للثقل السكاني، من أجل تشكيل جيش قومي موحد. كما أوضح أن الجبهة الثورية تضع في اعتبارها كذلك أهمية إصلاح القوانين المرتبطة بالقوات النظامية، فيتحمل القادة والجنود المسؤولية الجنائية في أي تجاوز للقوانين الإنسانية. ولفت إلى أن الجبهة مصرّة على ذلك، على ضوء الجرائم التي ارتُكبت في دارفور ضد المدنيين، بحجة صدور تعليمات من القادة الأعلى في التراتبية العسكرية والسياسية، مبيناً أنه حان الوقت ليتحمل أي قائد مسؤوليته في حال حدوث تلك التجاوزات. ولفت زكريا إلى أن حركات الكفاح المسلح تريد الاحتفاظ بكل قواتها خلال الفترة الانتقالية التي لم يتفق الأطراف بعد على عدد سنواتها، على أن يتمّ الدمج بصورة تدريجية مع إعطاء الأولوية لإصلاح القوانين.

من جهته، اعتبر الخبير العسكري، اللواء المتقاعد أمين مجذوب، في حديث مع “العربي الجديد”، أن وقوف أطراف التفاوض على عتبة الترتيبات الأمنية، يمثّل أهم نقطة حوار بين الطرفين، ومن السهل التوصل إلى اتفاق حولها، نظراً إلى الخبرة الطويلة لهما في هذا المجال، خصوصاً القوات المسلحة التي شاركت من قبل في ملف الترتيبات الأمنية الخاصة بجنوب السودان خلال الفترة بين عامي 2005 و2011، وكذلك الترتيبات الأمنية التي أفضى إليها اتفاق السلام في العاصمة القطرية الدوحة بين الحكومة وعدد من حركات دارفور عام 2011. وأشار إلى أنه بحسب تصريحات جميع الأطراف، فإنها تفاوض بعقل وقلب مفتوحين، ما يسهل الوصول إلى اتفاق بسرعة. وأشار مجذوب إلى أن طريقة التعاطي مع الترتيبات الأمنية باتت أمراً عالمياً ورد في الأمم المتحدة في إطار شروط وسياقات معروفة تقوم على أسس الدمج والتسريح. لكنه توقع حصول بعض التباينات، لأن الحركات المسلحة التي تتفاوض في جوبا تقترح إعادة هيكلة الجيش السوداني وفقاً لتوزيع نسبي لكل إقليم أو ولاية، ليصبح الجيش قومياً، وفقاً لمفهومها. وشدّد على أن ذلك يتعارض مع شروط الاستيعاب الأساسية، المتمثلة في اللياقة البدنية والعمر والقراءة والكتابة واللياقة الصحية والسجل الأمني، وآخرها الرغبة في إتمام الترقيات وفقاً لامتحانات ودورات تأهيلية.

وأضاف أن هناك فروعاً أكثر سهولة ضمن ملف الترتيبات الأمنية، مثل وقف إطلاق النار وإعادة الانتشار وشروط ما بعد الخدمة لأفراد الفرقتين التاسعة والعاشرة التابعتين للحركة الشعبية، فصيل عقار، حدثت حولها تفاهمات مسبقة ومن السهل إكمالها. وحول حديث البرهان عن وجود مشروع لإعادة الهيكلة ومفهوم الجيش الحكومي للهيكلة، أوضح مجذوب أن القائد العام يعني بحديثه استيعاب قوات من الحركات المسلحة في الجيش بعد إعادة تدريبها والمزج بينها وبين مسألة التنقلات وغيرها من خطوات تحدد دور الجيش في الفترة الانتقالية. وتوقع الاندماج الكامل لقوات الدعم السريع داخل الجيش السوداني وتحويلها إلى وحدة خاصة فيه، من دون الإبقاء على استقلاليتها السابقة لظروف فرضتها مهامها في السنوات الماضية.

من جهته رأى المتحدث الرسمي السابق للحركة الشعبية – قطاع الشمال، مبارك أردول، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن توصل جميع الأطراف في كل المسارات إلى اتفاق حول الترتيبات الأمنية يعني الوصول الحقيقي إلى السلام المنشود. وأشار إلى أن الطرفين؛ الحكومة وحركات الكفاح المسلح، هما شريكان وليس خصمين، ويتعاملان على هذا الأساس، بالتالي ستكون غاية التوصل إلى اتفاق سهلة التحقق. وأضاف أردول أن المطلوب أساساً في الجولة الحالية من التفاوض حول الترتيبات الأمنية هو الإقرار ببناء جيش وطني واحد بقيادة واحدة وعقيدة عسكرية واحدة، لافتاً إلى أن نظام الرئيس المخلوع عمر البشير كان يتصرف مع مثل هذه الترتيبات بالإصرار على انضمام الحركات المقاتلة إليه وإلى حزبه وأيديولوجيته المعروفة، ما أفشل التجارب السابقة. وهذا أمر مستبعد حدوثه بعد زوال النظام وقيام ثورة تريد تحويل المؤسسات إلى حالة قومية تعكس التنوع السوداني بأبعاده الثقافية والدينية والعرقية والجهوية.

وتوقّع أردول أن تحتفظ حركات الكفاح المسلح بعناصرها لنصف الفترة الانتقالية. وأوضح أن أبرز العقبات التي ستعترض خطط ترتيب الأوضاع الأمنية تتمثل في مواعيد الدمج النهائي والتمويل الذي تحتاج إليه العملية خلال الفترة الانتقالية، مشدداً على ضرورة التوافق على فهم مشترك لمبدأ إعادة هيكلة القوات النظامية، تحديداً بالنسبة إلى الجيش الذي تعرّض لاختراق كبير من الإسلاميين في حكم البشير، فضلاً عن عدم إجراء إصلاحات فيه منذ الاستقلال عام 1956، بالتالي يصبح الأهم هو تحويله إلى جيش قومي بعيداً عن فكرة الإلغاء الكلي.

بدوره، اتفق الفريق محمد بشير سليمان، الذي عمل من قبل متحدثاً باسم الجيش السوداني، مع ما ذهب إليه أردول عن ضرورة قيام جيش وطني على أسس عادلة تجد فيها كل المكونات المجتمعية السودانية نفسها. واعتبر في حديثٍ لـ”العربي الجديد” أن التوصل إلى تلك الغاية قد يواجه بجملة صعوبات، ومنها تحويل ولاء مقاتلي الحركات المسلحة بعد انضمامهم إلى الجيش من نظرة قبلية أو جهوية أو سياسية إلى نظرة قومية وتدريبهم وتأهيلهم بعيداً عن تدريب حرب العصابات، مع أهمية توعيتهم بالاتفاق السياسي وتنفيذ برامج لإعادة الثقة وقبل ذلك تأمين أماكن إيواء لهم ولأسرهم، وتوزيعهم في أي مكان في السودان وليس في منطقة واحدة. وحول مدى استعداد الجيش لاستيعاب أعداد كبيرة من المقاتلين، أوضح سليمان أن تحديد العدد الكلي للجيوش يعتمد على احتياجات الأمن القومي والمساحة الجغرافية والقدرة الاقتصادية والقدرة البشرية، مع مراعاة التمثيل الجغرافي والمجتمعي والعدالة في توزيع القيادة من منصب القائد العام وحتى أصغر جندي، كي لا تقتصر القيادة على منطقة بعينها. واعتبر أنه إذا تم ذلك فقد يكون الجيش الحالي بحاجة إلى تقليل عدده، شرط تفعيل برامج الدمج والتسريح، التي تضمن إدماج الذين سيتم تسريحهم في القطاع المدني.

العربي الجديد


تعليق واحد