قراءة في خطاب حمدوك (القومة للسودان)
قبل خمس سنوات احتجنا لبناء مدرسة ثانوية بنات اخرى لفض الاكتظاظ في المدرسة الاولى . بعد فشلنا في إيجاد مال من الحكومة للمشروع . كالعادة المواطن هو الملاذ دائما لدعم مشاريع التنمية و الخدمات في المنطقة .
للأسف المواطن كان قد سئم المساهمات الكثيرة التي ظل يدفعها خلال ثلاثين عاما دون أن يرى مردودها. لكن الحاجة الملحة لبناء المدرسة كان دافعا أن نلجأ اليه مرة أخرى …
عقدنا اجتماعا لكل المهتمين في المنطقة بمختلف اطيافهم الموالين للنظام وقتها و المغضوب عليهم . كانت المشكلة تهمنا جميعا . أذكر أن أحدا ذكر في تعليق له عندما أخذ الفرصة :
أن المواطن أصبح غير مهتم بمثل هذه النفرات و لا يدفع من أمواله للعمل العام ، وقد أرسلنا مندوبا قبل فترة للإمارات لجلب تبرعات للكلية الجامعية التي تبرع بها الرئيس ، لكنه عاد من هناك بخفي حنين لم نستطيع أن نغطي حتى مصاريف رحلته ، لذا أرجوا أن تبحثوا عن مورد آخر غير تبرعات المواطنيين …
أخذت الفرصة ورددت عليه بالحرف :
كل نفرة للتبرعات تعتمد على عدة شروط ، تنجح و تحقق أهدافها أن توفرت هذه الشروط ، و تفشل و تذهب ريحها أن افتقدتها. .. أول الشروط و أهمها هو طبيعة المشروع و أهميته للشخص دافع المساهمة، و ثانيها هو الاسماء و الوجوه التي أطلقت المبادرة و مدى ثقته بها في إدارة الأموال التي يساهم بها . ثالثها و أهمها هو التوقيت المناسب للمبادرة بحيث لا تتقاطع مع المواسم المهمة التي تثقل كاهل المواطن كالأعياد أو شهر رمضان أو موسم الزراعة . رابعا طريقة طرح المشروع للمواطن و مدى إمكانية المبادر من إقناعه و هذا يتمثل في الخطاب المقنع الذي لا يترك شاردة أو واردة مما يهم المواطن ، خطاب يبدد مخاوفه و يخاطب رغباته …
هذه هي الشروط المهمة لنجاح المبادرات ، قد تكونوا فشلتم لأنكم اهملتموها. و لكننا الآن سنعمل بها و نحرص عليها ..
وفعلا أطلقنا المبادرة و عملنا بالشروط عاليه ، ابعدنا كل الوجوه القديمة في واجهة المبادرة ، بيد أننا استعنا بهم كشركاء في كل مراحل المشروع لمعرفتهم بالعمل و طبيعته ، و مارسنا الشفافية في أعلى درجاتها، حد أن وضعنا (سبورة ) في السوق نضع فيها كشف للمساهمين و صور للفواتير و المنصرفات . عندما تلمس المواطنيين جدية الشباب و شفافيتهم ، و عندما شاهدوا درجة الشفافية في كيفية جمع وصرف الإيرادات تدافع الجميع للمساهمة . و كانت أكبر مساهمة جاءتنا من الجهة التي رفضت أن تدفع للوجه القديمة …
فكانت النتيجة مدرسة ثانوية من طابقين ، و نواة للجنة دائمة لخدمة و تطوير التعليم في المنطقة ، فقامت خلال هذه السنوات بإنشاء ثلاث مدارس أساس و العمل لا زال جاريا في تطوير العملية التعليمية ليس المباني فقط إنما حتى المعاني ..
الشعوب هي التي تدعم الحكومات ماديا على مر التاريخ البشري . فالشعب يدفع و الحكومات تنفق وفق رؤيتها في حال الديكتاتوريات ، و وفق رؤية الشعب في حال الديمقراطيات .. أحيانا تنزع الأموال نزعا من البعض ، و يدفعها آخرين عن طيب خاطر و رغبة حقيقية في الإنفاق .. ففطرة البشر تختلف من شخص لآخر ، لكن اغلبهم مفطورون على (يحبون المال حبا جما) …
خطاب حمدوك اول امس ليس ابتداعا، إنما طلب الرؤساء على مر تاريخ السودان من الشعب أن يساهموا في أمر من الأمور أو شأن من شئون الدولة . تسارع الناس للدفع كان حسب قناعتهم بالأمر المطروح من عدمه ، و قد أدهش السودانيين الشعوب من حولهم بمدى استجابتهم لمبادرة جنيه الكرامة التي أطلقها النميري لسداد قرض للقذافي …
لنجعل هذه الفذلكة مدخلا لقراءة الخطاب الذي ألقاه الرئيس حمدوك كمبادرة لمساهمة السودانيين للحكومة . لكن للأسف لم يحدد الخطاب قيمة المساهمة المطلوبة !! ، و لم يوضح أيضا المشروع الذي يريده ، هل يريد حمدوك هذه الأموال لسداد المرتبات ، أم يريد أن يفك بها اختناقات انعدام الوقود ، أم يريد أن يدفعها لأصحاب مطاحن القمح .. أم يريد أن يدفعها لتعويض متضرري الناقلة كول في المحاكم الأمريكية … أم يريد أن يحارب بها وباء الكورونا ؟؟؟
كل هذه الاستفهامات تجول بعقل كل متابع حصيف ، و كل يذهب إلى مافي خاطره فكما يقول المثل السوداني (الزول بونسوا غرضوا) ، أي أن الشخص عادة يتحدث أو يفهم ما يقول محدثه وفق ما يجول في خاطره (في حالة عدم توضيح المتحدث المقصود من كلامه ) …
و فعلا هناك من أعتقد أن حمدوك يريد المبلغ لمحاربة الكورونا و ذلك لاشارته للمرض في مقدمة خطابه و عرض المجهودات التي يبذلها العالم لمجابهته …. تحدث حمدوك عن تحديات و صعوبات اقتصادية تواجه الفترة الانتقالية ، لكنه لم يسترسل ليشير إلى طبيعة هذه الصعوبات و الأزمات . فعندما يكون سعر الوقود أقل من 7جنيهات ولا يجده المزارع في المحطات، فيضطر أن يشتريه من قارعة الطريق بسعر يتجاوز ال 100جنيه كي يحصد زراعته، فحتما يعرف أن هناك أزمة اقتصادية ، لكنه للأسف لا يعرف طبيعة الأزمة ، فكنا ننتظر أن يوضح لنا السيد الرئيس الأزمة مكانها مكانها وين ، فهذه الأزمة هي سبب جلبه من الخارج كي يكون رئيسا للوزراء …. عندما لم يوضح لنا طبيعة الأزمة كنا نرجو أن يحدد لنا قيمة المبلغ المطلوب و طبيعة المشروع العاجل الذي اضطره أن يلجأ للشعب كي يتبرع له ، لكنه أطلق خطابا مرسلا لا يستطيع الناس أن يحددوا المقصود منه سوى أنه محتاج فقط إلى المال ، و هذا الأمر لا يليق بحكومة انتقالية تكونت لوضع أسس للديمقراطية و الشفافية التي ننشرها ..
التوقيت الذي أطلقت فبه المبادرة غير مناسب ابدا ، فالمواطن الآن يعاني شظف العيش و ضيق الحال بسبب وباء الكورونا و الأزمة الاقتصادية العالمية التي تضرب كل بقعة في الأرض و جميع السكان بدون فرز .. ففي هذه الأيام يحتاج الكثير من المواطنيين توفير السلع الأساسية و معالجة إشكالات الحصول عليها ….
حمدوك أطلق مبادرته و السواد الأعظم من المواطنين مقسمون بين من ينام في سيارته بالأيام في الاقاليم البعيدة في انتظار دوره للحصول على الوقود لللوري الذي يعتاش عليه أبناءه، و بين أطفاله الذين يقضون سحابة يومهم في صفوف الخبز . و بين ربة الأسرة التي تلعن الزمن و تجار الفحم لبيعهم الجوال بمبلغ يتجاوز راتب رب الأسرة .. و بين مزارع يجري يمينا و يسارا عله يتحصل على برميل وقود ينجز به حصاد زراعته المهددة … هذا هو التوقيت الذي أطلق فيه حمدوك مبادرته ، و ينتظر هؤلاء البسطاء أن يلتفوا حولها و يقطعوا من لحمهم الذي التصق بالعظم كي يساهموا و يدللوا على حبهم لبلادهم التي لم تغادر افئدتهم ابدا …
و للأسف لم يحدد لهم بلغة بسيطة ما يريده منهم بالضبط ، فقط الآن ادفعوا المال لأن الحكومة تمر بأزمة اقتصادية صعبة !!!!!!
أتمنى من كل قلبي أن تنجح المبادرة و تحقق هدفها الذي لا نعلم منه سوى العموميات . لكن طبيعة الخطاب و عدم ذكر المشروع و التوقيت غير المناسب ابدا و الحالة النفسية للمواطن المستهدف كلها تقف عقبة قوية أمام نجاح هذه المبادرة . و أي فشل لها يتحمله من هم حول حمدوك و مستشاروه، فتجب محاسبتهم و ابعادهم عن أي مبادرات تطرح للجمهور مستقبلا . لأن أي فشل للحكومة فنحن الذين نكتوي بنيرانه …
للأسف لا زال القصر الجمهوري و سكانه بتعاملون مع الشعب على أنه سكان كافوري و المنشية و الرياض ، و بأنهم موظفي المنظمات الذين يقبضون رواتبهم بالدولار … و ليس الموظفين و العمال الذين تتقاصر رواتبهم عن قيمة جوال ذرة ، أو الذين يحرصون على أن يصلوا أماكن اعمالهم باكرا ، كي يستطيعوا أن يجدوا بعض الجنيهات يحولونها إلى ربات البيوت عبر تحويل الرصيد ليشترين شيئا يسد رمق الصغار عندما يستيغظون من النوم ….
على حمدوك إعادة النظر في طاقم مكتبه، فالشهادات المتنوعة و تعدد اللغات و المظهر الجذاب رغم أهميته إلا أنه غير كافيا للقدرة على مخاطبة مزارع القمح في الشمالية و الجزيرة ، أو زارع الموز في كسلا ، أو مزارعي الفيتريتة في النيل الأزرق ، هؤلاء يحتاجون إلى أشخاص يفهمون هممهم العالية و أحلامهم البسيطة التي لا تتجاوز مياها تدفق في جداول المزارع و ماكينات تهدر لتحصد نتاج عرقهم و مجهوداتهم .
سالم الأمين بشير
أبريل 2020