(١) كتب الخبير الاقتصادي كمال كرار يوم ٣٠ ديسمبر ٢٠١٩م تحت عنوان : ما وراء الكواليس، انطباعاته عن اجتماعه مع رئيس الوزراء وبعض الطاقم الوزاري لمناقشة الموازنة، وقال (استغرق الاجتماع ست ساعات كانت عبارة عن جدل اقتصادي مفيد جدا انتهى كما أظن بعدم الموافقة على رفع سعر المحروقات او تخفيض قيمة الجنيه السوداني)، وبغض النظر عما حدث بعد ذلك فإن عبارة (جدل اقتصادي) هذه كانت كافية بالنسبة لي لأعرف اننا نمر بمحنة كبيرة، وببساطة شديدة فإن إعداد الموازنة أرقام ولوائح وليس وقتا للجدل، فالموازنة تعبير عن خطة الحكومة ومشروعاتها المجازة وتنزيل الموجهات العامة وصياغتها في مشروعات، فهي بالتالي أرقام ومعدلان وليس مرحلة لتبادل ترف الأفكار والنقاشات الباردة، وبوضوح أكثر فإن الموازنة التي أجيزت والطريقة التي تمت بها كانت تعبير حالة من غياب الرؤية وانعدام الخطة وعجز الحيلة وفشل التدبير.
وحين نتحدث عن الموازنة، فإننا نناقش خطة حكومية لمدة عام واستنادا على خطة إستراتيجية ذات مدى طويل أو متوسط وفي هذه الحالة (مرحلة انتقالية)،
والموازنة تمثل ملخصا للخطة الحكومية ومداها سنة، ولكن ما حدث في السودان هذا الغام هو سابقة تاريخية إن لم يكن فضيحة سياسية ومالية، فالحقيقة الماثلة : انه لا موازنة ولا يحزنون؟
فقد رهنت الحكومة سد العجز البالغ ٥٨٪من الموازنة بعقد المشورة الشعبية او المؤتمر الاقتصادي المقرر في مارس ٢٠٢٠م واجتماع الأصدقاء في أبريل ٢٠٢٠م، وهذه الاجتماعات والمؤتمرات تعذرت فبالتالي : لا موازنة!
وهذا ينزع الشرعية المالية لخطط الحكومة وتصرفاتها المالية ويشير لانهيار اقتصادي.
(٢)
في يوم ٤ أبريل ٢٠٢٠م أنعقد إجتماع بين قوي التغيير ومع أطراف حكومية بدعوة من رئيس الوزراء وبمنزله وتحت عنوان: جائحة كورونا واتفقت الاطراف على عدة بنود من ضمنها رفع الدعم عن البنزين والجازولين والكهرباء اعتبارا من اول ابريل واستمراره للخبز والغاز، وهذا الجانب الذي يتم من خلاله تمويل زيادة الهيكل الراتب الجديد وهو ترضية لبعض الأطراف، ولكن ما حدث بعد ذلك يكشف مأساة الواقع السياسي في هذه المرحلة.
إن اول مطلوبات الموازنة غطاء سياسي واسناد شعبي، وأحزاب التغيير و لأغراض سياسية أو منطلقات فكرية تتبرأ من أي إتفاق يتطلب (كلفة شعبية) ونقاشا وتداولا مع المواطنين وتتخير التخفي الذي يعبر عن عجزها عن تحمل مسؤولية قراراتها.
َفي اليوم الثاني للاتفاق اي ٥ أبريل ٢٠٢٠م كانت اغلب مكونات (قحت) قد تبرأت مما أسمته (توجهات) وزير المالية وزاد بعضهم تطفيفا (والدولة العميقة).
ولعل ذلك هو ما عبرت عنه السيدة مريم المهدي في خطاب إستقالتها من الآلية الاقتصادية وقالت بالنص (أن الحاضنة السياسية تقرر قرار جماعي بشفافية ثم يبدأ أفراد منها في الهجوم عليه)، جاء ذلك بعد تكليف ترؤس الفريق أول حميدتي اللجنة الاقتصادية، وكان إجتماعا عقد في ٥ مارس ٢٠٢٠م وأقر ١٧ بندا، ولكن أحزاب من قحت هاجمت القرار وتداعيت الأمر معروفة.
إن هذه التصرفات تدل على عدم المسؤولية والكسل العملي وفشل التدبير وسوء التقدير ، وأصبح وزير المالية وحده في مواجهة واقع اقتصادي معقد وصعوبة في إدارة الموارد وتعزيز العملية الإنتاجية.
(٣)
ان السودان يواجه عجزا ماليا منذ العام ٢٠١١م، يتراوح بين ١.٥ – ٥ مليار دولار سنويا، ومع ذلك ظل يتدبر موازنته من خلال دفع العملية الإنتاجية وتوسيع الموارد وتنويع الأسواق العالمية والقيمة المضافة للموارد الخام من خلال مصانع ومسالخ ونحوه، وهناك الاستفادة القصوى من مردود الذهب حيث تشتري الحكومة ما يقارب ٤٠-٨٠ طن سنويا توفر عملة أجنبية لسد الضروريات من الدعم للوقود والدقيق والكهرباء والغاز، وقد انهارت كل هذه الخطط في ظل هذه الحكومة الكسيحة، بل ان وزارة المالية لم تجد بدأ من تفويض شركة خاصة لتصدير الذهب للحصول فقط على ٢٠-٤٠ مليون دولار شهري وهو العقد الفضيحة (بالمناسبة أين نتائج لجنة التحقيق بخصوص عقد الفاخر)!
وبعيدا عن (هتافيات) ولغة اللزجة والعبارات الفجة فإن الموازنة تعبر فعليا عما أنجز من خدمات وما تم من مشاريع وما تحقق من رفاه اجتماعي، وكل ذلك لم يتحقق منه شبر واحد، وكل ما جري عبارة عن ظواهر (كلامية) ومظاهر توسع دائرة الفقر وتراجع الخدمات وتوقف المشروعات وانعدام الأفق وغياب الأجندة الوطنية..إن انسداد الأفق السياسي سيؤدي الي عواقب وخيمة، لقد اثبتت الايام القليلة ان هذه الحكومة ليست عاجزة فحسب، وإنما تفتقر للحس بالمسؤولية.
د. إبراهيم الصديق على
الثلاثاء ١٩ مايو ٢٠٢٠م
