رأي ومقالات

غياب النزاهة في تقرير النزاهة


*غياب النزاهة في تقرير النزاهة*
(1) في ٥ يونيو ٢٠٢٠م نشر تقرير لمنظمة النزاهة المالية الدولية، يشير إلى وجود فارق بين الصادر الذي أعلنت عنه الحكومة في الفترة (٢٠١٢م – ٢٠١٨م) يقدر بأكثر من ٣١ مليار دولار و ذكر التقرير أن تقارير بنك السودان أشارت ان مجمل الصادر من سلعتي الذهب والبترول خلال هذه الفترة ٦٥ مليار دولار بينما يرى تقرير منظمة النزاهة ومن خلال مراجعة ٣٧٤ عملية تجارية ان المبلغ ٩٦ مليار دولار بما يفيد فقدان ٣١ مليار دولار، وقد طارت الأسافير بهذه المعلومات بما فيها من اضطراب وهشاشة وهو ما نناقشه تاليا،
وأول :نقطة مهمة هنا، أن المنظمة اختارت تاريخ ما بعد الإنفصال مباشرة، تشير هذه الفترة إلى نقاط مهمة:
* فقدان السودان ٩٠٪ من عائدات الصادر نتيجة تناقص صادر النفط، لإن معظم الحقول الإنتاجية ضمن دولة جنوب السودان، وتراجع الإنتاج من ٣٥٠ الف برميل في اليوم إلى ١٣٠ ألف برميل واستمر تراجع الإنتاج بعد هجوم قوات جنوب السودان على هجليج عام ٢٠١٢م، و خلال هذه الفترة اي حتي نهاية عام ٢٠١٨م كان إنتاج النفط في حدود ٧٥ ألف برميل يوميا، وهو أقل من تشغيل مصفاة الخرطوم والذي يبلغ ١٠٠ ألف برميل يوميا ويمثل ٥٠٪من حاجة البلاد، بل إن الإنتاج وصل إلى ٤٧ ألف برميل يوميا، وأدى ذلك لمعاناة حقيقية.
*ونتيجة لذلك تراجعت الصادرات وبدأ العجز في ميزان المدفوعات، فقد كان الفائض التجاري عام ٢٠١١م يصل إلى ٩٥٣ مليون دولار، اما في العام ٢٠١٢م فقد ظهر العجز جليا وبلغ ٥ مليار و٢٣٠ مليون دولار (الواردات ٩ مليار و٢٣٠ مليون دولار والصادرات ٤ مليار و٦٦ مليون دولار). وهذه الحقيقة تشير إلى أنه لم يكن في إمكان السودان تصدير أي نفط ما عدا بعض المشتقات النفطية، أو كل نسبة الشركات المنتجة كانت محل إشكال كبير أدي لإنسحاب بعضها وتوقف أخرين عن التوسع في التنقيب وتطوير الإنتاج وحتى الصيانة الدورية.
* إن إنتاج النفط رهين بشركاء آخرين ، ولديهم نصيبهم من الإنتاج ولديهم معرفة كاملة بتفاصيل الإنتاج كما أن هذه الشركات ذات حظوظ في أسواق المالية العالمية والبورصات وتكون حريصة على سمعتها وإنتاجها، ولكل ذلك يصعب أي محاولة للتلاعب.
ثانيا: لقد خضعت موثوقية الحكومة في مجال البترول للمراجعة والتدقيق بعد وقبل الإنفصال، وترتبت على ذلك قرارات، وأهمها دراسة صندوق النقد الدولي الذي أشار إلى أن السودان سيفقد ١٠.٩ مليار دولار من جراء الإنفصال وتبعاته وألزم حكومة جنوب السودان تحمل ٢٠٪ من ذلك وقدر المبلغ التعويضي بحوالي ٣.٥ مليار دولار سنويا، ووضعت كرسوم على صادرات بترول جنوب السودان بواقع ١٥ دولار على كل برميل، يضاف إليها ٩.٥ دولار رسوم عبور وهو أمر اتفقت عليه الأطراف وتم العمل به، ولعل ذلك سبب إغلاق حكومة الجنوب للحقوق حين تدنت الأسعار إلى ٣٠ دولار، ولم يعد لجوبا أي مردود من الإنتاج.
وثالثا: فإن الدول العشر الأكثر تبادلا للتجارة مع السودان، في غنى عن استيراد بترول السودان وهذه الدول تمثل ٩٠٪ من صادرات السودان، وهذا وحده يكشف هشاشة مثل هذه التقارير والدول وحسب عام ٢٠١٨م (الصين، الأمارات، السعودية، الهند، مصر، روسيا، تركيا، ألمانيا، تايلاند، أثيوبيا).
ورابعا : وعطفا على النقطة أعلاه فإن التقرير أشار فقط إلى أثيوبيا واليابان، وصحيح أن الأولى الشريك العاشر في التجارة بينما اليابان ما بعد ٢٥ في ترتيبها. واغلب هذه الدول الميزان التجاري لصالح الشركاء ما عدا أثيوبيا والأمارات وربما نفصل في هذا حين نناقش عائدات الذهب.
خلاصة الأمر، أن السودان تحول من دولة منتجة للنفط عام ٢٠١١م إلى دولة مستوردة، وتراجع الإنتاج لما دون تشغيل المصفاة، وكان جهود وزارة الطاقة زيادة الإنتاج إلى ١٠٠ ألف برميل بما يوفر الإستقرار وقد كانت أزمة الوقود واحدة من مثلث الأزمات ذلك العام (الوقود، الدقيق، النقود).. فأين القدرة على التصدير، إن هذا تزييف على مستوى عال من (التنطع) وغياب النزاهة والمصداقية، بل يقترب من الترصد وسوء النية.
(2)
أما البند الثاني فهو الذهب، وقد بدأ تصاعد مساهمة الذهب في الإقتصاد السوداني منذ عام ٢٠١٢م، وبدأ الإنتاج في حدود ٢٠ طن سنويا وتصاعد ليصل إلى ٩٤ طن عام ٢٠١٦م واحتل السودان المركز الثالث أفريقيا بعد جنوب أفريقيا وغانا، وبلغ ١٠٧ طن عام ٢٠١٧م ومع ذلك فإن هذه التقارير محل خلاف، لإن بعض المصادر تشير إلى أن الإنتاج قد يصل إلى ٢١٠ طن كما أشار وزير الصناعة الأسبق د. موسى كرامة، وإجمالا فقد شكل الذهب قوة في الإقتصاد ما بعد الإنفصال، مع ملاحظة نقاط مهمة :
أولا : إن ٨٥٪ من إنتاج الذهب السوداني أهلي، أي جهد مواطنين عاديين، وليس للحكومة قدرة سيطرة عليهم، بينما ١٥٪ إنتاج شركات تعدين مع علاقات معقدة مع وزارة الطاقة والتعدين ومع اضطراب سياسات بنك السودان.
ثانياً : سعت الحكومة لتنظيم هذه الثروة من خلال سياسات استقطاب وضبط، فقد اقترحت السعر العادل، حيث يشتري بنك السودان كيلو الذهب بمبلغ ٢.١٥ مليار جنيه سوداني، وهو ما يعادل ٤٨ الف دولار حينها، بينما يشتري التجار إنتاج المواطن في حدود ٥٠ الف دولار، وتم اقتراح نماذج متعددة للسيطرة وآخرها إنشاء محفظة (بريق) في أكتوبر ٢٠١٨م وتهدف لشراء الذهب وسحب السيولة من التجار واعادتها لدورة الإقتصاد، والنماذج متعددة للقرارات والسياسات.
وثالثا: شددت الحكومة من الإجراءات القانونية وتم تعديل المادة ٥٧ وسميت الإضرار بالإقتصاد الوطني وتم منح نسبة للقوات التي تساهم في ضبط التهريب.
رابعا: إن من (3-5) مليون مواطن كانوا ضمن الفاعلين في عملية إنتاج الذهب والتي امتدت الي ١٤ ولاية، منهم مليون مواطن معدنيين، بينما البقية يعملون في مهن أخرى فقد فتحت أسواق ومحلات تجارية ومطاعم، واستقطب الذهب مجموعات من دول أخرى، كل ذلك جعل من الصعب السيطرة على إنتاج الذهب في السودان. وادي لتوسيع دائرة ومساحة التهريب وهذه حقيقة معترف بها.
وإجمالا فإن الحكومة كانت وما زالت عاجزة عن الإحاطة بإنتاج الذهب، وليس لها القدرة وملكية إلا ما يشتريه بنك السودان أو يحصل عليه من إنتاج الشركات المختلفة، وهو أمر واضح البيانات والأرقام. ولا يمكن القول ان هناك قدرة على تزييف أرقامه او تغييرها.
(3)
ومن المهم في عرضنا هذا عن تقرير النزاهة الإشارة إلى نقاط في خاتمته :
* إن الحصار الإقتصادي على السودان منذ العام ١٩٩٧م وإلي تاريخه، أدي إلى محدودية التعاملات التجارية، والدول ذات الفاعلية في التبادل التجاري مع السودان لا تتجاوز ٢٥ دولة، بينما يشير التقرير إلى تعاملات مع ٧٢ دولة وأكثر من ٣٧٤ عملية تجارية، وهذه محاولة لإبراز سعة الدراسة، بينما في حقيقة الأمر أدت لكشف الإختلال فيها وغياب المعايير والتدقيق.
*إن الحكومة مجموعة مؤسسات وأفراد وتشريعات، لا يمكن أن تتضافر جميعا على فعل واحد، وهذا أمر فوق المستحيل وأبعد عن الموضوعية والموثوقية.
*ذكر التقرير دول مثل اليابان واثيوبيا، وإن كان للأخيرة تبادل واسع مع السودان، مع إمكانية التهريب فإن ايراد اليابان وهي دولة مشهورة بدقة قوانينها يعتبر محاولة لإضفاء مصداقية مضروبة.
*ونقطة قبل الأخيرة، إن إنتاج النفط ما زال مستمرا وكذلك الذهب، فكم تحقق في هذا العهد؟ إن ترحيب بعض الأكاديميين والخبراء لمثل هذه الأباطيل سيقودهم لإمتحان تحقق، فهل تغير ميزان المدفوعات لصالح السودان في أي دولة أو زادت الإيرادات، إن الوضع الآن سيء بكل المقاييس.
لقد أوردت الصحف أمس أن إنتاج البلاد من الذهب في الربع الأول من العام ٢٠٢٠م بلغ ٨ طن، وهذا أقل بكثير مما تم في العام ٢٠١٨م!!!!
إن مثل هذه المنظمات تسوق لمواقف سياسية في بعض الأحيان أكثر من دراسات وأرقام فعلية، ويتطلب ذلك التوقف عندها، فقد يكون هدفها أبعد مما نتصور، كما أنني اقترح على الإقتصاديين من وزراء في تجربة الإنقاذ تشكيل فريق للرد على هذه الترهات وتوفير المعلومات الدقيقة فمن حق التجربة الإنصاف ومن حق الشعب معرفة الحقيقة. ونرفق مع هذه المساهمة بعض الجداول التي قد تفيد في إكمال الصورة. والله المستعان .

د. إبراهيم الصديق على
الأحد ١٤ يونيو ٢٠٢٠م