عبد اللطيف البوني

مطر وعيد ..


عزيزي القارئ كل عام وانت بخير وان شاء الله القادمة انت ونحن والبلاد وكل الامة احسن حالا مما نحن عليه الان . بالطبع باب السما مفتوح ورحمة الله واسعة والمشيئة الالهية لم ولن تغيب لحظة عن الكون وسنن الله باقية والدعاء مخ العبادة وبوسعنا ان نسأل الله بأن يعود العيد وبلادنا قد ركلت كل اوجاعها وعوفيت واصبحت لها شنة ورنة ولكننا اكتفينا بالدعاء بتحسن الحال وتحسن الحال يبدأ ببطء معدلات التدهور بعبارة اخرى لن نطمع في توقف التدهور ناهيك عن انطلاق البناء بل ان يستمر التدهور ولكن بمعدلات اقل ويرجع ذلك لايماننا بان سنن الله في الكون ماضية فلايوجد مطر بدون سحاب ولايوجد حريق بدون نار فان يتم التعافي لحالنا لن يحدث الا اذا حدثت معجزة وبالطبع زمان المعجزات لم ينته وعليه يمكننا ان ندعو قائلين اللهم انزل علينا معجزة من معجزاتك تبدل وتغير احوال بلادنا وتخرجنا مما نحن فيه يا كريم يامجيب فلا يأس من رحمة الله التي وسعت كل شيء .

يأتي هذا العيد وعاصمتنا القومية التي اصبحت تضم ثلث سكان السودان تغمر مياه السيول الفيضانات اجزاء واسعة من اطرافها , الامطار نعمة دون شك والمطر دليل على رضاء الله عن العباد وبلادنا تعيش على الامطار ولولا الامطار لما كانت فيها الحياة والمطر نوعان في بلادنا من حيث اماكن نزوله النوع الاول هو الذي يهطل في ارض السودان مباشرة والنوع الثاني هو الذي يهطل في دول مجاورة ويأتينا عبر النيل وفي كل خير ولكن المطر الذي يهطل مباشرة في بلادنا هو الاكثر وكان يجب ان يكون هو الاكثر فائدة لكننا للاسف نحن نستفيد من القادم الينا من الخارج اكثر وهذه قصة اخرى.

الامطار التي تحاصر اطراف العاصمة الان نوعان نوع هطل فيهاونوع قدم اليها من الولايات المجاورة في شكل سيول وقد فعلت هذه الامطار الافاعيل بالسكان وعرضتهم لانعدام المأوى والمأكل والمشرب وقطعت الطرق وبعد ان فعلت كل هذا سوف تذهب للنيل لكي يستفيد منها اناس آخرون وهذا هو الدليل على عجز السودان وقلة حيلته وهوانه بين الدول فهذه النعمة قد تحولت الى نقمة لاننا عاجزون عن الاستفادة منها كما تفعل الدول القادرة وهذه قصة اخرى فاللهم اعد علينا العيد ونحن لدينا بعض القدرة على تلافي الاضرار التي تحدث بنعمة الامطار كان تكون لدينا معرفة بمجاري السيول ولدينا مصارف نحو النيل , اللهم اعد علينا الاعياد القادمة ونحن لدينا قدرة على الاستفادة من مياه السيول والفيضانات وذلك بان تكون لدينا ثقافة ومعرفة بما يسمى حصاد المياه .

اللهم وببركة هذا العيد السعيد ان شاء الله خفف على اخوتنا المنكوبين بالامطار والسيول في كل السودان اللهم اخر عنهم الفيضانات حتى يتعافوا من النازل بهم الان اللهم وببركة هذا العيد السعيد خفف عن اهلنا الذين يعانون من الحروبات القبلية والاهلية وكل المناطق التي تعاني من انفراط امني اللهم اعد علينا العيد وبلادنا اقل معاناة واقل بشتنة واقل فشلا آمين يارب العالمين .

(ب )
شلة العيد

كنا شلة صبية اشقياء في المرحلة الثانوية نلتقي في مصلى العيد بالقرية وبعد الصلاة مباشرة ننتحى جانبا للونسة والتعليقات الجانبية اثناء الخطب التي تعقب خطبة الامام فالعيد اصبح المناسبة الوحيدة التي يجتمع فيها كل اهل القرية لذلك اصبح مؤتمرا شعبيا لمناقشة اهم قضايا القرية . استمرت شلتنا على هذا المنوال لعقود من الزمان تجاوزنا عهد الصبا والشباب وكلنا الان كهول بدرجات متفاوتة في الكهولة ولكن مناسبة العيد ظلت هي المناسبة الوحيدة هي التي نتصابى فيها ونتشاقى فيها متناسين العالم من حولنا
في العيد الاخير التقينا كالعادة ولكن افتقدنا اكثرنا مرحا وتنكيتا فقد ذهب الى رحاب مولاه بين هذا العيد والذي قبله وهناك ثان طريح الفراش جراء مرض عضال قد يصعب الشفاء منه ولايأس من رحمة الله . ثالث قد فقد زوجته بين العيدين اما بقية البعض من الشلة فكلهم في جيوبهم حبوب ضغط او سكري او الاثنين معا ومع ذلك حاولنا تمضية اللحظات المعتادة ونحن نغالب احزاننا وراضين بقضاء الله وقدره ومستسلمين للظروف ومنتظرين الدور على قول احدنا.

ونحن في غمرة محاولتنا لتطبيع جلستنا وردت ملاحظة من احدنا ابتدرها بقوله (ياجماعة شوفوا حولنا نحن اصبحنا اكبر الجالسين في حرم مصلى العيد شوفوا قدامكم وشوفوا وراكم ماشاء كلهم شباب نحن وحدنا الراسنا شائب حتى الامام خطيب العيد اصغر مننا بكثير ) اردف آخر (ياجماعة لما كنا شباب اكان في شيوخ وكهول طيب نحن عارفين الشيوخ اباؤنا نحن ناس حاج فلان وشيخ فلان كلهم رحلوا امال فين الجماعة الكهول الكانوا بينا وبين اباؤنا ؟ ما معقولة يختفوا فجأة ونبقى نحن في الواجهة لازم في حاجة غلط ولانكون نحن ما حاسبينها صاح) رد عليه حكيمنا (عليك نور نحن ما كنا حاسبينها صاح اصلوا في جيلين جيل آباء وجيل ابناء وما بينهما منقسم بين الجيلين فرحل جيل الآباء فاصبح جيل الابناء هو جيل اﻵباء الجدد والذين حولكم ذي ما انتو شايفين ديل الابناء فبطلوا جرسة وطبعوا انفسكم مع سنن الحياة ).

كانت كلمة حكيمنا اعلاه هي البلسم الذي اعاد لجسلتنا دفئها وحميميتها القديمة فامضينا لحظاتنا وادركنا ان لكل عمر من اعمارنا ما يضفي عليه عذوبته ورقته وحلاوته بشرط ان لانحاول معاندة اعمارنا بمحاولة ايقافها عند سقف محدد او استلاف اجندة من زمن مضى لزمن حاضر ثم افترقنا بعد ان عيدنا على بعض وعلى الاخرين من حولنا وفي خاطر كل منا عدة اسئلة على شاكلة من الذي سيرحل ومن الذي سيبقى بين هذا العيد والعيد القادم ؟ ومن الذي سوف يأتي للعيد القادم ومعه كرسي للصلاة ؟ ومن الذي سوف يتخلف في البيت لعجز في قواه في العيد القادم ؟ ومن …. ؟ ومن …؟
وكل عام والجميع بخير.

(ج )
اكان الله حيانا

(1 )
بعد ان انتهت مراسم العيد الدينية من صلاة وخطبة بدأت مراسمه الاجتماعية حيث طرحت قضايا القرية وبعد ذلك بدأت مباركة العيد فالكل اخذ يحضن الكل , العيد مبارك عليكم , مبارك علينا وعليكم , العفو , لله ورسوله بعضهم يكتفي باسم الجلالة فقط وهؤلاء اقلية , في غمرة هذه الزحمة وجدت نفسي وسط ثلاثة اصدقاء منذ مرحلة الابتدائي لم نتلق منذ اكثر من عام وبعد السلام حق الله بق الله ومباركة العيد استرعى انتباه احدهم الشبشب الذي انتعله فقال لي يافلان نعلاتك اتبدلن ولاشنو انت لابس رطب قديم وتعبان ؟ قبل ان اجيبه تطوع الثاني بالاجابة قائلا يا خي الحكاية موروثة ماشفت عمك حاج -فلان ذكر اسم الوالد – كيف كانت نعلاته اكان مديها بالشلوت فتدخل الثالث قائلا ياجماعة دي تربية حاجة فلانة- ذكر اسم الوالدة- جنها وجن العين فالجلابية ما شاء الله عليها والعمة ما تخلص عشان كدا قال احسن يكف العين فوقعت على الشبشب بتاع الحمام وهنا تدخلت وقلت لهم انتم ماعندكم موضوع عشان طولنا من بعض فالعيد القادم اكان الله حيانا لن تجدوا فرصة مثل هذة.

(2 )
بعد خروجنا من مصلى العيد الذي هو جامع القرية العتيق اصر احد الاصدقاء ان نفطر معه وعندما وصلنا البيت وجدنا مناظر تتجاوز مناظر العيد المعتادة فالضوضاء اكثر وحركة الناس اكبر وصواني الطعام المتحركة كانت وكان هناك مناسبة ما , فسألت عن الحاصل فكان الرد ان هذا اول عيد يمر على ود فلان – ذكر اسم الرجل الذي دعانا – فسألت ماذا يعني هذا فكانت الاجابة انه لازم يكون عنده فطور جامد فقال لي صديقي انه لم يناموا ليلة الامس ذبيحة , وتجهيزات فأقسم لي ان الخسارة كادت تلامس خسارة الزواج نفسه فقلت هذه الاشياء لم تكن موجودة في زماننا فعلمت ان هذه العادة المستحدثة عمرها تجاوز الخمس سنين فسألت من الذي ابتدعها فلم اجد اجابة جاهزة فشرعنا كمجموعة نبحث عن جزور الظاهرة فوصلنا اخيرا ان عائلة ناس فلان هي التي ابتدعتها وهي عائلة معروفة بالبوبار والفشخرة وسيطرة النساء وقررنا ان نبدأ الحرب على هذه الظاهرة منذ العيد القادم اكان الله حيانا وتكفلت انا بالتحدث مع تلك العائلات المتهمة بتنمية الظاهرة.

(3 )
بعد مغادرة مكان الفطور عيدت على بعض اهلنا الكبار-نساء ورجال- الجالسين في البيوت لم اكن منقطعا عن زيارتهم ولكن للعيد خصوصيته فمررت ببعض البيوت التي فقدت عزيزا في الفترة بين هذا العيد والعيد الاخير فكان الحزن مسيطرا والدمع منهمرا والصراخ المكتوم يعلو ويهبط . بكاء الاهل على الميت في اول عيد يمر على وفاته مسألة طبيعية وانسانية وقديمة فمناسبة العيد كفيلة بتهييج الذكريات وكانت تتم سرا حتى لايتحول العيد الي غم ولكن ان يتجدد المأتم ويذهب الاهل والاحباب لتأدية واجب العزاء من جديد هو الجديد فالمفروض ان تكون معايدة اهل المتوفى الغرض منها حملهم على تناسي الفقد وليس البكاء معهم . الحال هكذا قررت بيني وبين نفسي الحديث مع بعض الاصدقاء لنرى كيفية تجريد هذا الامر الانساني من المظهر الاجتماعي الذي حاط به وننقاش هذا جماعيا في العيد القادم اكان الله حيانا والموت خلانا .

(د)
في سيسيولجيا العيد
العيد مناسبة دينية في الاساس ولكن هذه الشعيرة الدينية احاطت بها الكثير من المظاهر الاجتماعية لدرجة ان الجانب الاجتماعي اصبح هو الظاهر من المناسبة فالاجازة التي تمنحها الدولة وكافة المخدمين تصنع واقعا اجتماعيا قائما بذاته نعم الاجازات في حياة العاملين امر طبيعي ولكن ان تكون هناك اجازة موحدة اي يتمتع بها الكافة مع بعض الاستثناءات يجعل لاجازة العيد طعما ومذاقا خاصة.

قبل عدة سنوات كانت اجازة فرصة للدعة والراحة ومقابلة الاهل الذين تتعثر مقابلتهم في غير الاجازة العامة ولكن في السنوات الاخيرة اخذ البعض يستثمر الاجازة في اتمام مراسم الزواج الخاصة بهم مستفيدين من العطلة التي تنتظم المجتمع فاصبحت احياء المدن والقرى تعج بمناسبات الاعراس لدرجة ان صالات الافراح في العاصمة يتضاعف سعرها في الاعياد وكذا اجور الفنانين والطباخين وغرف الفنادق وكل ادوات الولائم فالعيد اصبح موسما للمشتغلين في قطاع الخدمات المتعلقة بالاعراس ولعل في هذا تدوير للاموال لابأس به هذا اذا تغاضينا النظر عن البذخ والبوبار الذي يقوم به ناس شوفوني .

الزواج لم يعد مناسبة تهم الزوجين فقط او حتى اسرتيهما فالمواطن العادي الذي ليس في بيته الصغير مناسبة تجده محاطا بعدد من مناسبات الاعراس التي تحتم عليه ان يظهر فيها ويجامل وتقل المجاملة او تزيد على حسب العلاقة مع اصحاب المناسبة . مع كثرة الاعراس في مناسبات الاعياد اصبح الجميع يفرد لها ميزانية مع ميزانية العيد فمثلا في مناسبة عيد الفطر مع اسعار الحلوى وجديد الملابس لابد ان تضيف ميزانية للمناسبات وكذا تضيفها لسعر الخروف في عيد الاضحي.

المجاملة في الافراح والاتراح (الكشف) ظاهرة اجتماعية طيبة وهي تدل على ان روح النفير مازالت موجودة في المجتمعات السودانية ولكن بعض الاسر المرتاحة اصبحت ترفض حكاية (الكشف ) هذه وفي تقديري ان هذا تقليد غير حميد لانه سوف ينسحب على الاسر الفقيرة ويأتي يوما ترفض الكشف مع حاجتها له فالمفارقة هنا ان الذين يبالغون ويسرفون في مناسباتهم هم الذين يلغون الكشف وبما انهم من علية القوم فسلوكهم هو الذي يسود اذ تجد ناس الطبقة الوسطى التحت يقلدونهم في الصرف وفي رفض الكشف فتصبح مناسبات الزواج ميتة وخراب ديار كما يقولون .

ان اعراس الاعياد وكافة مناسبات الزواج محتاجة لدراسة اجتماعية عميقة وبعض سلوكياتها محتاجة لمراجعة ويجب ان لاتترك للتلقائية التي تتم بها الان لابد من تدخل واع يجعل هذه المناسبات محتفظة بخصائصها الجمالية وفي نفس الوقت تزيل ما علق بها من طفيليات الطبقة الطفيلية . دون شك ان هناك محاولات ومبادرات مختلفة قد ظهرت وسارت في الاتجاه الذي ذهبنا اليه عليه لابد تثمين هذه المبادرات واظهارها بغرض تعميمها اخشى ما اخشاه في هذا المقام هو ان نستسلم للنخبة الطفيلية المرتاحة التي تطحن في اعرافنا و سلوكياتنا وعاداتنا الاجتماعية الجميلة طحنا وكل عام وانتم بخير.
د. عبداللطيف البوني

السوداني


تعليق واحد

  1. مقال كبير وجميل وعظيم وله معاني ودلالات وذلك بعض أن طاف علينا البروف في العيد لاسيما العيد عندما يكون في القرى وهذا المقال يجب أن يستفاد منه كثيرا ليس لفحواه الأدبية وإنما حلق بنا في الريف السوداني وعيد أرض الجزيرة وأرض المحنة مع هطول الأمطار بعد صلاة العيد مباشرة بعد تخوف عباد الله وعم الجوع والعطش وأصبحت الأرض جرداء بسبب عدم هطول الأمطار ولكن رحمة الله أكبر فجاء الغيث وسقى الزرع والضرع … ونرجع لعيد البروف ونحن في الغربة مع مقاله تعود بنا الذكريات إلى قريتنا الوديعة (السوريبة) بمحلية بركات ولاية الجزيرة وأيام العيد والفرحة والمعايدة … ونعود للأعراف المجتمعية والعادات والتي تعتبر سمة في مجتمعنا السوداني ربما لا نجد لها نظير في المجتمعات الأخرى وهي تعيد وتزيد من الترابط الاجتماعي والاسري وتجعل المجتمع يعيش مع الفرد ويقف معه في الأفراح والأتراح ويشاركه بقدر استطاعته مما يجعله يشعر برحمة ربه وأن الناس للناس والكل لرب العالمين. مع خالص شكري وتقديري للبروف البوني
    النيل العوض الحليو
    قرية السوريبة ـ مدني