تحقيقات وتقارير

متاريس يحرسها الصغار .. الزج بالأطفال في المعارك السياسية .. أخطاء جسيمة!!


أسر الشهداء: الأطفال يمكن أن يقوموا بأدوار ثورية عظيمة غير حراسة المتاريس وتشييدها

خبير تربوي: ظهور القُصر في المتاريس مثله مثل اسخدام الأطفال كدروع بشرية

خبير قانوني: ينبغي أن تقود الشرعية الثورية لسيادة حكم القانون لا مخالفته

بات واضحاً ظهور لغة التضجر بين جموع السودانيين كما مروا على متاريس منصوبة في الشوارع ووجدوا عليها مجموعات من الصبية الصغار يحرسونها، ويقومون بتوجيه السيارات لتغيير مساراتها، و بالطبع يستحي المواطنون من الدخول في مشادات كلامية مع أطفال المتاريس بسبب أن هؤلاء الأطفال يقومون بدور كبير وخطير إنابةً عن لجان المقاومة والثوار وكثير من القوى السياسية التي تؤيد مبدأ التصعيد الثوري لمطالبة الحكومة باستكمال أهداف ثورة ديسمبر. إلا الظاهرة نفسها وجدت استهجاناً كبيراً من عدد من المراقبين ويرون بأن هناك أخطاء تقديرية كبيرة في منهج التصعيد الثوري الذي يترك العمل الميداني لمجموعات من الصبية الصغار وفقاً لتقديراتهم، ودون خوفاً عليهم من تعرضهم لأية احتمالات قمع أو استهداف من قبل أعداء الثورة أو حتى من قبل أية قوات أمنية لا يروقها أغلاق الشوارع ، ولا تستحسن التصعيد الثوري نفسه. وأقر عدد من النشطاء والمراقبين بخطورة الزج بالأطفال في معارك سياسية أو استعمالهم كدروع بشرية ضد القوات الأمنية، وأن ذلك ربما يُوقع لجان العمل الميداني للثوار في فخ المخالفات القانونية.

ثقافة المتاريس

ظهر مصطلح “المتاريس” في المسرح الثوري السوداني، للمرة الأولى، في ليلة التاسع من نوفمبر 1964م، وذلك حينما شاع أن عدداً من ضباط الجيش السوداني خططوا، بعد أسبوعين، من ثورة أكتوبر 1964م، التي أطاحت بالفريق إبراهيم عبود لانقلاب عسكري، لسرقة تلك الثورة الشعبية. و قتها، اقترح عضو جبهة الهيئات في ذلك الزمان، الراحل فاروق أبو عيسى ، بث بيان من الإذاعة لجماهير الشعب السوداني للخروج إلى الشوارع وحماية الثورة من السرقة عبر الانقلاب. وأطلقت وسائل الإعلام السودانية – وقتها – على تلك الليلة، “ليلة المتاريس”، بعدما خرجت أعداد مقدرة من السودانيين لمقاومة الانقلاب المحتمل، حينها. ومنذ ذلك الحين أصبحت المتاريس ثقافة يتورثها الثوار جيلاً بعد جيل كلما شعروا بوجود خطر على ثورتهم، أو كلما اقتضت المقاومة الثورية ذلك. وبعد السادس من أبريل في العام الماضي، لجأ الثوار المعتصمين في ميدان القيادة العامة للجيش بنصب المتاريس حماية لاعتصامهم، ومنذ ذلك التاريخ باتت المتاريس هي إحدى أدوات الثوار الفاعلة في المقاومة والتصعيد الثوري ضد الأجهزة الأمنية، وأعقاب نجاح الثورة السودانية وبعدما شهدت البلاد تراجعاً ملحوظاً في خاصية القمع المفرط التي كانت تنتهجها الأجهزة الأمنية، تحولت المتاريس لظاهرة تعبر عن الغضب الثوري والرفض للإجراءات الحكومية في كثير من القضايا، ولكن بعد مليونية (جرد الحساب ) الأخيرة والتي تعرض فيها الثوار للعنف المفرط من قبل القوات الأمنية، عادت المتاريس إلى الشوارع ، ولكن كانت العودة تحمل معها وجوهاً جديدة لحراس المتاريس، حيث ظهرت وجوه الصبية الصغار حُراساً للمتاريس في غياب تمام لوجوه الثوار قادة لجان المقاومة في الأحياء ، ومما منح المراقبين شعوراً بخطأ كبير يحدث الآن في مشاهد إحدى الوسائل السلمية المحببة للثوار وهي إقامة المتاريس.

دروع بشرية

الخبير التربوي ، معز أبوالزين، استهجن ظاهرة وجود أطفال لم يبلغوا سن الرشد القانوني للقيام بدور حُراس للمتاريس، وقال في تصريحات لـ(الجريدة) ، هناك خطوة بالغة في السماح للأطفال القُصر للقيام بمثل هذه الأدوار الكبيرة، وأن تلك الأدوار لا تتماشى مع روح القانون ولا الأعراف ولا الأخلاق، وتدخل حيز استخدام الأطفال كدروع بشرية في معارك سياسية صرفة وهو أمر مُحرم قانوناً. وأكد أبوالزين بأن الأطفال من سن السابعة حتى العشرة هم عرضى للابتزاز والاستغلال، ويجب على المجتمع حمايتهم، ولأنهم هم في أعمار حساسة وتكون البيئة المزاجية والنفسية لهم مهيأة لعمليات الإسقاط النفسي، فكلما وجدوا سانحة أو فرصة للتمتع بحريات كبيرة غير منضبطة وخارج أسوار الأسرة الصغيرة ولوائحها، فهم يمارسون أمزجتهم الخاصة وفقاً لخاصية التمرد ، ويرى أبوالزين أنه مهما كانت قداسة الثورة ومايرتبط بها، يجب الانتباه بأن تكون مشاركة القُصر فيها مضبوطة بمعايير قانونية وأخلاقية، خوفاً من أن يتعرض هؤلاء الأطفال لعمليات ابتزاز أو استغلال تؤدي في نهاية المطاف لتشويه قيمة الثورة نفسها. وحذر أبو الزين من الفراغ العريض في العمل الميداني الثوري الذي يلجأ الأطفال لملأه إنابة عن القيادات السياسية بأنه يخلق مسارات غير مستقيمة وغير منسجمة مع أهداف الثورة والتغيير الكلية.

مسؤولية الولي عن القاصر

الخبير القانوني، الفاضل أحمد المهدى، تحدث عن العلاقة الشائكة بين الشرعية الثورية وسيادة حكم القانون، وقال لـ(الجريدة) أن الشرعية الثورية في العادة تصبح هي القانون الفاعل في تسيير دفة الدولة إلى ضفاف العدالة المنشودة، مضيفاً بأنها أحياناً قد تصبح عثرة في تطبيق القانون أو سيادة حكمه في حال وجود أية انحرافات في مسار الثورة عن أهدافها، وأضاف المهدي بأن الدولة السودانية تعاني من مشكلة كبيرة في أن تصبح دولة قانون، وأن العمل السياسي فيه كثير من التجاوزات القانونية، على الرغم من أن الأحزاب السياسية تضع في نظامها الأساسي عمراً زمنياً محدداً لاكتساب عضوية الفرد محدد ببلوغ السن القانوني (18) سنة، إلا أن الصراعات السياسية هي التي جعلت كثير من القوى السياسية تستعمل القاصرين في كثير من اوجه معاركها السياسية، وقال على سبيل المثال هناك حركات مُسلحة تتورط في تجنيد أطفال كمخالفة حتى للقوانين الدولية. وفيما يتعلق بظاهرة الأطفال القُصر الذين يحرسون المتاريس، أكد المهدي بأنها قضية تقع ضمن مسؤولية الولي عن القاصر ، بحسبان أن معظم هؤلاء الأطفال إن وقعوا في أخطاء قانونية أو أثاروا الفوضى أو حدث إن اشتبكوا مع مواطنيين، فإن القانون لن يحاسبهم على أخاطائهم لأنهم قُصر، وأن المسؤولية تقع مباشرة على أولياء الأمور الذين سمحوا لهم بالدخول في معارك سياسية غير معلومة المآلات الأمنية.

صورة أخرى

رئيس منظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر، فرح عباس فرح، لم يذهب بعيداً عن الذي ذهب إليه الخبير التربوي والقانوني، لكنه_- أي فرح عباس- قدم توضيحاً مفصلياً عن القضية مصحوب بعدة مقترحات لاستعدال الصورة المقلوبة، وقال لـ(الجريدة)، الشعب السوداني نجح في تقديم صورة مُبهرة عن الثورة السودانية بسلميتها وجسارتها ووعيها، صورة أدهشت كل شعوب العالم وتفاعلت معها كل وسائط الإعلام العالمية والإقليمية، مضيفاً بأن الثوار بإمكانهم تصحيح كل الأخطاء التي لازمت الحراك الثوري، وأكد بأنها أخطاء غير مقصودة، مشيراً إلى انهم لا يمانعون من إشراك الأطفال القُصر في أدبيات الثورة المجيدة، ولا يطالبون بإبعادهم، لكنهم – أي أسر الشهداء- يرون أنه ينبغي وجود الأطفال في كل فاعليات الحراك الثوري عبر أدوار تليق بعمرهم القانوني، مثل تعليمهم ترديد نشيد العلم أو توزيع الملصقات الثورية الصغيرة إلى المارة، دون الزج بهم في أدوار لحراسة المتاريس أو تشييدها، وقلل فرح من خطورة الأصوات التي تحاول الأصطياد في الماء العكر لتجريم الحراك الثوري وشيطنته، مشيداً بأن شباب الثورة لديهم من الوعي ما يكفي لإعادة تصحيح كل الهنات وتجاوز الصورة السالبة وإرجاع الثورة إلى زخمها المُبهر وعدم الاستعجال في التصعيد الثوري قبل الاتفاق والتحضير الذي يُقلل من الأخطاء المصاحبة.

الخرطوم: عبدالناصر الحاج
صحيفة الجريدة