احمد دندش

مسرح (الفقير الواحد)


مدخل:
(لم أجد غنياً يعطف على فقير.. الفقراء في بلادي يعطف عليهم الفقراء)
(1)
صبي صغير ينتهز فرصة اكتساء (خدود) شارة المرور بالاحمرار ليقفز وسط أرتال السيارات بسائقيها المتضجرين بسبب عدم لحاقهم عبور الإشارة في لون ربيعها (الأخضر)، يمسك الصبي بـ(قطعة بالية) قام باقتطاعها من قميص قديم، ليمسح بها زجاج إحدى الفارهات، قبل أن يرسم ابتسامة على وجهه وصاحبها يقوم بإنزال الزجاج، و…(أنا مش قلت ليك ما تمسح القزاز يا ود الـ…)…والصبي يتراجع مصعوقاً، ليس من ردة فعل ذلك الثري الأبله والمغرور، وإنما من ذلك (اللفظ) الذي علموه في المدرسة – قبيل أن يغادرها – بأن من ينطقه هو إنسان (غير محترم).!…ثانيتان تَمرُّان، قبل أن ينادي على الصبي رجل عابر بالشارع في أواخر السبعينيات، ليتردد الصبي في الاستجابة، فالموقف السابق، أصاب دواخله بالتضارب حول تحديد (المحترمين) من سواهم، اقترب السبعيني من الصبي، وتراجع الصبي أكثر حتى التصق بجدار خلفه، كان ينتظر (صفعة) من ذلك السبعيني ذي الملابس الرثة، ليكتمل المشهد، لكنه فوجئ به يضع في جيبه قطعة نقود معدنية ويغادر المكان.!…تحسس الصبي جيبه، أخرج العملة ونظر إليها قبل أن يُلقي بـ(القطعة البالية) ويغادر المكان، فقد تعلم لتوه درساً جديداً لا تحويه مناهج ومقررات المدارس.
(2)
الطفلة ذات الأعوام التسعة – والحزن الذي يمتد لألف عام – لم تجنِ شيئاً في هذه الدنيا، بخلاف أن والدتها أحلتّ عليها (المساسقة) بين طاولات الكوتشينة بشارع النيل، لتمد كفها الصغير لللاهين والعابثين واللاعبين بأوراق (الناب)؛ تتوقف هنيهة أمام أحدهم قبل أن تقول برفق طفولي: (لله).. لينظر إليها ذلك (الحقير) قبل أن يرد عليها بصلف: (يا خي غوري من هنا)…سؤال.. أوَ ليس في الدين آية قرآنية تقول بصريح العبارة: (وأما السائل فلا تنهر)؟
(3)
تقضي (ح) يومها في غسل أرضيات تلك الفيلا الفخمة بذلك الحي الخرطومي الراقي، قبل أن تعرج إلى غسل ثياب أهل الفيلا -وليس المنزل- تتصبب عرقاً وحزناً ومرضاً و(قلقاً) كذلك، فطفلها ذو السنوات السبع ينتظرها وحيداً بالمنزل وهو يتضوَّر جوعاً، تنتهي سريعاً من عملها، قبل أن تقف بحياء أمام سيدة الفيلا لتستأذنها في المغادرة، فتجيبها تلك بعنجهية: (تعالي قلمّي لي ضفوري ديل قبل ما تمشي)، وتحاول (ح) أن تشرح لها أن أمعاء ابنها تتقلم في تلك اللحظات، لكن.. وآه من لكن…فـ(تقليم الجوع للبطون حلال.. أما تأجيل تقليم الأظافر فهو بدعة تستحق العقاب)!..و…عزيزتي (ح).. لا تقلقي على طفلك.. فجارتك (س) بائعة الشاي قامت بـ(الواجب وزيادة).
(4)
تتكئ على حائط بالٍ بوسط الخرطوم، وهي تكحُّ بشدة، تتوقف بجانبها سيارة فارهة يمد صاحبها رأسه من نافذتها ويسألها: (يا حاجة.. مالك؟).. فتجيبه بوهن: (مافي شي يا ولدي بس تعبت شوية)، فيمد صديقه برأسه من النافذة الأخرى ويصيح: (تعبتي من شنو؟).. فتأخذ نفساً عميقاً قبل أن تقول: (الدواء بتاعي خلص وما عندي قروش أجيب فتيل جديد)، هنا يهمس الآخر لصديقه: (يا عمك.. دوِّر واتخارج.. دي شكلها محتالة ساكت)، ليهز صديقه برأسه علامة الإيجاب قبل أن يغادر مخلفاً بعض الأدخنة السوداء من عادم سيارته والتي كانت سبباً أساسياً في تدهور حالة تلك المرأة الصحية…آه.. نسيت أن أخبركم بأن تلك المرأة أنقذها طالبان جامعيان كانا يراقبان المشهد، وحملاها إلى مستشفى قريب، مع العلم بأنهما كانا يتشاوران قبيل ذاك المشهد، عن الكيفية التي سيتدبران بها أمر (الفطور).!
(5)
الفقر ليس عيباً.. (العيب) هو الاستهزاء ب(الفقراء).!
احمد دندش
السوداني