تحقيقات وتقارير

الامام الصادق المهدي ..حكاية رجل مثير للاهتمام


ولد الصادق المهدي في 25 ديسمبر/كانون الأول 1935 في أسرة سودانية ذائعة الصيت، فجده الأكبر محمد أحمد المهدي قاد ثورة شعبية على الاحتلال الإنجليزي واضعا اللبنات الأولى لدولة السودان الحالية في العام 1885، وذلك بعد أن وصلت قواته إلى القصر الرئاسي في الخرطوم.
وكان الصادق المهدي الحفيد المفضل لجده الإمام عبد الرحمن المهدي، ومكنه ذلك من أن يتبوأ مكانا في المجالس السياسية بشكل مبكر، وحينما توفي والده الإمام الصديق بات الطريق معبدا للصادق ليحقق النجاح في مجال السياسة.
أيام الدراسة
زاوج الصادق المهدي في دراسته بين التعليم الديني التقليدي والتعليم الحديث، وبدا أثر ذلك واضحا في مستقبله السياسي المليء بالتناقضات وإثارة الجدل، فمن كلية فيكتوريا في مصر انتقل إلى جامعة أكسفورد البريطانية حيث درس الاقتصاد والعلوم السياسية.
تزوج الصادق المهدي من حفية مأمون شريف، وبعد ذلك بسنوات قليلة تزوج بالثانية وهي سارة الفاضل، وتجمع صلة قرابة بين الزوجتين من جهة والصادق المهدي من جهة أخرى، فجمع بين القريبتين.
وللصادق المهدي عدد من الأبناء والبنات، أشهرهم اللواء عبد الرحمن الصادق الذي شغل منصب مساعد رئيس الجمهورية في فترة الرئيس المعزول عمر البشير، وكذلك مريم الصادق التي تشغل الآن منصب نائبة رئيس حزب الأمة.
بدأ الصادق المهدي حياته موظفا في وزارة المالية، لكنه سرعان ما طلق الوظيفة الحكومية ليلتحق بالعمل السياسي، حيث لمع نجمه في ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، والتي كان له دور واضح فيها عن طريق تحريك الشارع للإطاحة بالحكومة العسكرية الأولى برئاسة الفريق إبراهيم عبود، وقد وصل الراحل إلى قبة البرلمان بعد أن بلغ السن القانونية لذلك (30)، ليكون أصغر نائب في البرلمان، ثم انفتح له الباب مسجلا رقما قياسيا جديدا باعتباره أصغر رئيس وزراء سوداني، وذلك في العام 1966.
الصراع مع العم
لم يكن الوصول إلى منصب رئيس الوزراء أمرا يسيرا، فقد اقتضى ذلك أن يخوض الصادق المهدي أولى معاركه السياسية ضد عمه الهادي المهدي، ونتج عن ذلك أول انشقاق كبير في حزب الأمة وكيان طائفة الأنصار الصوفية، إذ تفرق الحزب بين الشاب الطموح والعم المحاط بقيادات تاريخية كانت تخشى على الحزب من مغامرات الشاب العائد من أوروبا، ولم يستتب أمر رئاسة الوزارة للصادق المهدي سوى عام إلا قليلا.
وفي مايو/أيار 1969 وقع انقلاب، ووضع العسكر المدعومون من اليسار السوداني ضمن خطتهم الانقلابية تصفية ما يرونه يمينا رجعيا، وأدى ذلك إلى مواجهة واسعة امتدت من مركز طائفة الأنصار في أم درمان إلى معقلهم في الجزيرة أبا، لكن تلك المعركة أدت إلى مصالحة بين الصادق وعمه الهادي، وعقب ذلك توحد الطرفان في مواجهة الحكومة العسكرية، لكن المواجهات انتهت بمقتل الهادي في مارس/آذار 1980، ونتج عن ذلك خلو المسرح للصادق المهدي.
دخل الصادق المهدي إلى سجون حكومة الانقلابيين، والتي اضطرت لنفيه إلى مصر عقب توسط الرئيس المصري أنور السادات، ليقضي هنالك نحو عامين، قبل أن يعود إلى بلده قائدا للمعارضة المدنية التي تمركز نشاطها بين لندن وطرابلس.
وقد حدث تحول في تفكير الصادق المهدي عقب اصطفافه في الجبهة الوطنية التي تشكلت من تحالف واسع يشمل حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والإخوان المسلمين، فقد بدأ التحالف الجديد بتشجيع من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في تبني أساليب عسكرية مناهضة لحكومة جعفر نميري، وانتهت تلك المغامرة بمحاولة الوصول إلى السلطة عبر عمل عسكري في يوليو/تموز 1976.
المصالحة الأولى
بعد فشل الصادق المهدي في بلوغ السلطة عن طريق العسكر جنح إلى السلم عقد اجتماعا شهيرا مع الرئيس جعفر نميري في مدينة بورتسودان في 7 يوليو/تموز 1977، وقد جلب ذلك الاجتماع المفاجئ للصادق المهدي سخط الحلفاء القدامى الذين لم يشاورهم في الأمر.
ورغم موافقة الصادق المهدي على الالتحاق بصفوف النظام المايوي (نظام نميري) -حيث بات عضوا في الاتحاد الاشتراكي الذي يعتبر الحزب الحاكم في ذلك الوقت- فإن شهر العسل السياسي لم يدم طويلا، فعاد الصادق المهدي إلى صفوف المعارضة منتظرا فرصة أخرى.
في أبريل/نيسان 1985 سقط نظام المشير جعفر نميري تحت وطأة ثورة شعبية، فنظم الصادق المهدي صفوف حزبه وكسب الانتخابات التي أجلسته على مقعد رئيس الوزراء في العام 1986 للمرة الثانية، لكن حكم الصادق المهدي الهش لم يصمد سوى 3 سنوات، فانقض عليه هذه المرة حلفاؤه السابقون، وعلى رأسهم صهره حسن الترابي زعيم الجبهة الإسلامية التي كانت شريكة للصادق المهدي في واحدة من حكوماته المتعددة خلال فترة حكمه القصير.
ومع وصول حكام السودان الجدد في 30 يونيو/حزيران 1989 بات رئيس الوزراء مطاردا، ثم تعددت أيام حبس الصادق المهدي حتى وجد الفرصة سانحة للهرب إلى إريتريا في يوم زواج إحدى كريماته، في عملية معقدة أطلق عليها “تهتدون” في ديسمبر/كانون الأول 1996.
العسكر مجددا
اختار حزب الأمة منذ الأيام الأولى لحكومة الإنقاذ أن يصنع جبهة مقاومة من كل الحلفاء، فتأسس التجمع الوطني كحاضنة سياسية لعدد من القوى التي ناصبت النظام الجديد العداء، وتم تكوين تحالف عسكري نفذ عمليات محدودة ضد الحكومة السودانية.
وكأنما الرجل لم يتعلم من التاريخ حينما طلب في العام 1998 من الشباب السودانيين الهجرة إلى إريتريا للمساهمة في إسقاط النظام العسكري في بلاده، ثم بدأ كعادته يتواصل مع الممسكين بزمام السلطة، فالتقى سرا في مدينة جنيف السويسرية في العام 1999 بحسن الترابي عراب النظام الجديد.
كما التقى بالرئيس السوداني عمر البشير في جيبوتي، ووقع معه اتفاق “نداء الوطن” في نوفمبر/تشرين الثاني 1999، لكن الراحل لم يكمل مشوار المصالحة الوطنية واختار أن يتراجع في منتصف الطريق، مما أدى لانشقاق ثان في حزبه، إذ قاد ابن عمه مبارك المهدي الجناح الذي صالح حكومة الإنقاذ.
ثورة شعبية
شكل سقوط نظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019 عقب ثورة شعبية كللت بتدخل العسكر فرصة مواتية للصادق المهدي للعودة إلى المسرح السياسي من أوسع أبوابه، فتمكن ببراعة من أن يحجز مكانا بين قادة الثورة الشعبية التي سيطرت عليها قوى يسارية، إلى جانب جنرالات الجيش الذين عرفوا ببراغماتية تستوعب اتجاه الرياح.
عاد الصادق المهدي إلى الخرطوم بعد غيبة طويلة في ديسمبر/كانون الأول 2018 وكأنه قد اشتم أوان التغيير، ثم كون مع قوى أخرى “تحالف قوى الحرية والتغيير” الذي وضع لمسات العام الأول للانتقال.
لكن قبل أن يبلغ التحالف الجديد سن الفطام بدأ المهدي يستخدم معاول الهدم، فجمد نشاط حزبه داخل التحالف الجديد مطالبا بإعادة هيكلته، وملوحا بانتخابات مبكرة بدا واثقا من الفوز فيها كما فعلها عقب انتفاضة العام 1985.
لا للتطبيع
رغم أن حزب الأمة يظل داعما سياسيا للحكومة الانتقالية فإنه احتفظ بمسافة منها في عدد من القضايا المفصلية، فقد عارض الصادق المهدي أي خطوات للتطبيع مع إسرائيل، واصفا إياها بالنظام العنصري، وقد جلب له هذا الموقف سخط قوى إقليمية تتكسب سياسيا من التطبيع، وأخرى دولية جعلت من إدماج إسرائيل في الإقليم هما سياسيا.
وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أعلن عن إصابة الصادق المهدي وعدد من أفراد أسرته بفيروس كورونا المستجد، ولم ينقل الرجل إلى أي مشفى بسبب استقرار حالته، حتى أنه كتب مقالا يعارض فيه التطبيع ويعدد مساوئه من على فراش المرض.
وبعد أيام نقل الصادق المهدي إلى المشفى العسكري في أم درمان مع استقرار حالته الطبية، وفي الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي قررت أسرته بإيعاز من الأطباء أن يكمل العلاج في دولة الإمارات، وقد دخل الرجل وهو في كامل وعيه إلى الطائرة برفقة بعض أهله، وتواصلت الأخبار يوما بعد يوم تفيد بأنه بخير وصحته تتحسن.
ويوم الثلاثاء الماضي أصدر حزب الأمة بيانا يطلب فيه من الشعب أن يرفع أكف الدعاء والتضرع من أجل شفاء الصادق المهدي، إلا أن الأجل المحتوم وافى الرجل وهو في عمر ناهز 85 عاما.
ظل الصادق المهدي مثيرا للاهتمام والجدل منذ بواكير التحاقه بالعمل السياسي، فقد كان يغير تكتيكه كثيرا متنقلا بين المعارضة الناعمة والعمل العسكري، وفي الجانب الفكري قدم أطروحات اتسمت بإثارة الخلاف، ومنها تأييده مساواة المرأة والرجل في الميراث.

عبدالباقي الظافر.

الجزيرة نت