ملفات طارئة على طاولة المنصورة وزيرة خارجية السودان
ملفات طارئة على طاولة المنصورة ١-٢
تأتي وزيرة الخارجية الجديدة الدكتورة #مريم_الصادق_المهدي إلى الوزارة محمولة على رأسمال رمزي شخصي كبير فهي حفيدة الإمام محمد أحمد المهدي أحد العلامات البارزة في تأريخ السودان وهي ابنة الزعيم الراحل الإمام الصادق المهدي رئيس الوزراء لعهدتين انتخابيتين والزعيم المتوج – بغض النظر عن موقفه من حكومة الأمر الواقع – لشريحة سكانية ذات غلبة.
وتتكيء على خبرات كبيرة في العمل السياسي والدبلوماسي الحزبي والحركي مكنتها من صناعة علاقات في دوائر كثيرة أوروبية وعربية وأفريقية. تحمل السيدة مريم إجازتين أكاديميتين في طب الأطفال والقانون إلى جانب حصولها على تدريبات عسكرية وفي الفروسية. وفوق ذلك فهي تتمتع بشجاعة مشهودة في الرأي والعمل ولديها حضور جاذب في الإعلام المحلي والخارجي وتجيد الحديث باللغتين العربية والإنجليزية بشكل لافت لم يكن متوفراً لجملة من أسلافها في المنصب الهام.
إضافة لكل هذا فهي سيدة وهذا يعطيها مزايا تفضيلية كثيرة في مجال العمل الدبلوماسي سواء على الصعيد القاري أو الدولي.
بهذا الزخم فإن وجودها في المنصب الرفيع والهام مناسب تماماً خصوصاً في هذا الظرف التاريخي حيث يعول السودانيون كثيراً على العون الأجنبي والمساعدات الدولية والإقليمية للوفاء بمستحقات الانتقال في الحكم.
يعتمد نجاح الفترة الانتقالية الحالية على حزمة من العوامل المحلية والخارجية تحتاج إلى أدوات وآليات قوية لضمان تحققها وأحد أهم تلك الآليات وزارة الخارجية.
***
ظلت وزارة الخارجية السودانية منذ نشوء الدولة الوطنية مؤسسة للجذب الوظيفي ضمن هيكل الخدمة المدنية الذي لم يتطور بشكل متناسب ومتناغم في مختلف مؤسسات الدولة، مما أعاق التطور وجعل الدرجات الوظيفية المعتمدة للرواتب والحوافز والاستحقاقات غير متجانسة، فالموظف الحكومي في مدخل الخدمة للجامعيين (الدرجة التاسعة) في أي مؤسسة حكومية بعيد كل البعد عن نظيره في وزارة الخارجية من حيث المزايا والمكاسب والوضع الاجتماعي، وهذا خلل إداري جعل الكثير من طلاب الوظائف ينظرون إلى العمل الدبلوماسي كغنيمة بينما لا ينظرون إليه إلا كخيار أخير في مؤسسات الخدمة المدنية الأخرى.
هذا الخلل مؤسس بشكل رئيسي على الرواتب المتحصل عليها من الإبتعاث الخارجي بالعملات الأجنبية، وهذه نفسها تنقسم إلى عدة فئات: فالإبتعاث إلى عواصم الغرب في أمريكا وأوروبا ليس بذات جاذبية الابتعاث إلى العواصم الافريقية وبعض العواصم العربية والآسيوية.
هذا الخلل أسس طابعاً سلوكياً (حربياً) داخل الوزارة حيث التكتلات وشبكات النفوذ والمصالح والقرابات السياسية والعائلية وغيرها، وصار هذا السلوك هو الحاكم في علاقات الفريق الدبلوماسي عموماً وعوضاً أن يكون للبلاد فريق موحد في الرؤى والأهداف والمصالح لصالح خدمة البلاد، كانت المحصلة مجموعة من الفرق المتناحرة التي تستغل كل الثغرات الموجودة وتصنع المزيد من الثغرات من أجل تحقيق المكاسب الخاصة، وإن تناقضت مع المكسب الوطني العام.
في بدايات الدولة الوطنية اقتسمت مجموعة من العائلات وسكان بعض المدن وأبناء طبقة اجتماعية معينة غنيمة العمل الدبلوماسي، وفي عهد مايو زاد مجموع المتنافسين على الغنيمة بدخول فئات أخرى تطلبتها التوجهات السياسية كالجنوبيين، وفي عهد الإنقاذ وهو أحد أبشع عهود الفساد الإداري والمالي في البلاد تحولت مؤسسة الدبلوماسية إلى غنيمة حزبية أقل اكتراثاً بالإنتماءات الأخرى وإن بقيت هنا وهناك.
****
كان الأمل أن يكون عهد الثورة الجديد مقدمة لإصلاح في بناء الدولة كلها ومن ضمن ذلك المؤسسة الدبلوماسية، لكن كانت المحصلة منذ البداية وحتى الآن مخيبة للآمال بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد. في أوائل أيام الثورة أقال الحكام العسكريون عدداً من السفراء بشكل مهين ولا يليق بصورة البلاد أمام العالم الخارجي، حيث صدرت قرارات بفصل سفراء وهم على رأس أعمالهم في الخارج بدلاً عن استدعائهم أولاً، ثم التعامل معهم بشكل عادل ووفقاً للقانون. كان هذا سلوكاً أخرقاً من العسكريين. ولا يسمح هذا المقال بسرد السجل المخزي للتلاعب والإساءة لصورة البلاد حتى تم تعيين الوزيرة أسماء محمد عبد الله وكان ذلك التعيين بداية لدخول الوزارة في مرحلة من التيه الجديد لم تخرج منها بعد.
تشكلت لجنة فاسدة لإعادة المفصولين تعسفياً من الخدمة وقامت هذه اللجنة بشكل موثق الفساد بإعادة الكثير من المستقيلين والمفصولين لأسباب إدارية، وأعاد بعض أعضاء اللجنة ذاتها أنفسهم وأفراد من عائلاتهم وأصدقائهم للعمل في هيكل الوزارة، وتمت ترقيتهم بشكل استثنائي ومساواتهم بمجموعة من العاملين الذين حصلوا على وظائفهم بالترقي وعبر خبرات اكتسبوها على مدى عقود.
هذا مظهر من مظاهر السلوك الحربي في الوزارة حيث يتم فصل سفراء واخلاء مقاعدهم تمهيداً لاحتلال آخرين لذات المقاعد.
هذا أمر مخزٍ ينبغي أن يتوقف فوراً وأن يعاد النظر في كافة الإجراءات التي ترتبت عليه منذ سقوط النظام السابق فليس أنسب من المقدمات الصحيحة لبلوغ النتائج الصحيحة والعكس صحيح بالتأكيد.
***
عقب اقالة وزيرة الخارجية السابقة نشطت الكتائب الحربية لجماعة الحرية والتغيير والشيوعيين والمحموديين (الجمهوريين) في استغلال الفراغ القيادي ومحاولة صناعة واقع جديد عبر جملة من الإقالات (عمليات التمشيط) واخلاء المواقع، واعداد كتائب جديدة لسد الثغور المصنوعة حديثاً.
في هذا السياق أعلنت وزارة الخارجية بشكل مخالف للنظم واللوائح وعلى منصات التواصل الاجتماعي عن توفر أماكن شاغرة من أصحاب الخبرات لشغل وظائف سكرتيرين أوائل ومستشارين (لاحظ المفارقة الفاسدة في فصل أصحاب الخبرات ثم الإعلان عن الحاجة لأصحاب خبرات).
اعترض البعض على الإعلان المخالف للنظام، فعادت الوزارة وأعلنت عن الوظائف عبر مفوضية الإختيار للخدمة المدنية القومية من خلال الصحف ووضعت عنوان بريد الكتروني على خدمة مجانية (جي ميل) وهذا تسيب إداري غير مقبول من المفوضية المنوط بها مسئولية التوظيف في الخدمة المدنية كلها.
على عجل تم العمل من أجل اكمال عملية توظيف الموظفين الجديد والتعويل على بطء تشكيل الحكومة الجديدة والتي استمرت المشاورات أو التباطؤ في مشاوراتها لحوالي ال٧ أشهر. تم اسقاط شرط العمر من الوظيفة وهذا تقدم كبير، ولعله التقدم الوحيد في شروط الاختيار للوظيفة وتم الاتفاق مع جامعة الخرطوم للإعداد لامتحانات التنافس بين المتقدمين وهذا اختيار جبان وفاسد واحتيالي (Fraudulent) فالجامعة غير مؤهلة من حيث الخبرة، ولا التجربة للإعداد لمثل هذه الامتحانات التي كان ينبغي اعداها بواسطة خبراء من الوزارة أو لجنة من الخبراء في الخدمة المدنية، أو العهدة بها إلى مؤسسة خاصة مستقلة، وقد أثبتت جامعة الخرطوم بالفعل أنها غير مؤهلة لتلك المهمة.
وضحت بصمات البروفيسورة فدوى علي طه أستاذة التاريخ ومديرة الجامعة في الامتحان، والبروفيسورة العاجزة عن كتابة خطاب واحد خالٍ من الأخطاء النحوية والإملائية هي أعجز عن وضع امتحان لدبلوماسيي المستقبل.
جاءت صيغة الامتحان معبرة عن العصر الأكاديمي الحجري وعتيقة (Obsolete) ولا تعبر عن حاجات الموظف الدبلوماسي سواء كان متوسطاً، كما هو مطلوب الآن، أو مبتدئاً. الحقيقة ان طريقة هذه الأسئلة قد توقفت المدارس الابتدائية في غالب أنحاء العالم، والسودان كذلك، عن طرحها وهناك ما لا قبل لنا بإحصائه من الكتب والدراسات الأكاديمية الرفيعة عن ضرورة التوقف عن طرح الأسئلة المغلقة النهايات (Closed ended questions) لصالح تلك المفتوحة النهايات بحيث تشجع طلاب المدارس الأولية على الطرح الحر والتفكير النقدي.
إن المرء يشعر بخجل شديد وهو يقدم نصائح مثل هذه لمؤسسة أكاديمية موقرة مثل جامعة الخرطوم.
لقد توقف طرح الأسئلة المغلقة النهايات وتلك التي لها إجابة واحدة حاسمة في امتحانات التأريخ في مدارسنا الأساسية، واستعيض عنها بما يسمى بالخريطة الزمنية (Timeline) والتي ترصد الأحداث التاريخية في سياق ترتيب تصاعدي أو عكسه.
إن عقول الناس ليست دفاتر وإنما هي أعضاء أكرم الله بها خلقه لمهام أكثر تعقيداً وأهمية وقيمة وفائدة.
ما قيمة أن يتذكر الدبلوماسي تأريخ تأسيس الحزب الجمهوري؟ أو تأريخ تأسيس حزب الأمة؟ ومتى تم الانتهاء من بناء السد العالي؟ ومتى تم إنشاء معهد بخت الرضا؟ ومتى تم انشاء كلية كتشنر الطبية؟ ومتى تأسس الاتحاد النسائي السوداني؟ وما هو عنوان المقال الذي أرسله فلان لجريدة حضارة السودان؟ ومن هو أول سفير بريطاني في السودان؟ ومن هو الشاعر الذي كتب نشيد الاتحاد الأوروبي؟ متى اعترف السودان بالصين الشعبية؟ ومن أي سيمفونية تم اختيار لحن نشيد الاتحاد الأوروبي؟
هناك أمران لا ثالث لهما للخروج بخلاصة مفيدة من نماذج الأسئلة وعشرات الأسئلة الشبيهة التي وضعت في امتحانات اختيار الدبلوماسيين الجدد ورثة الدبلوماسيين المطرودين من وظائفهم ظلماً ودون تمكينهم من التقاضي ضد مخدمهم الظالم وهي أنه: إما ان الإمتحان تعجيزي بحيث يرسب جميع من هم خارج (النخبة المنتقاة) مقدماً، وإما أن من وضع الإمتحان شخص -عفواً – بليد، وغير مؤهل لمثل هذا النوع من المهام التي تتطلب تأهيلاً أفضل.
هاتو عشرة من أعلى قيادات الوزارة ووجهوا لهم نفس هذا النوع من الأسئلة المغلقة النهايات والتي لا تليق بطلاب الإبتدائية ثم انظروا فيمن ينجح منهم.
الإختبارات التنافسية هذه وهي ممارسة معروفة حول العالم تنعقد للتعرف على أفضل المؤهلين لأداء الوظيفة المطلوبة والتعريف بقدراتهم، فما هي القدرات التي يمكن التعرف عليها من سؤال شخص عن تأريخ محدد مثل تاريخ اعتراف السودان بالصين؟ أما كان الأجدى طرح سؤال عن الصين كقوة دولية ومكانتها في عالم اليوم؟ أو تأثيرها في المنظمات الدولية؟ أو علاقاتها بأفريقيا أو السودان؟ لو طرح مثل هذا السؤال لكانت الإجابات فرصة للمفاضلة بين المتنافسين.
كيف يمكن التعرف على قدرات المرشح وتأهيله لوظيفة دبلوماسية من إجابته عن سؤال حول عام تأسيس الإتحاد النسائي؟ وهو بهذه المناسبة واجهة من واجهات الحزب الشيوعي. أما كان الأفضل طرح سؤال حول مشاركة المرأة في الحياة السياسية والحياة العامة في السودان؟ او ما إذا كانت هناك ضرورة أصلاً لتأسيس منظمات سياسية نسوية في وجود أحزاب مفتوحة لمشاركة النساء دون تعسف أو تمييز جندري؟ مثل هذه الأسئلة المفتوحة هي التي تتيح للمخدم التعرف على قدرات المرشح للوظيفة وقدراته فكيف تحكمون؟
لقد استنطقت صحيفتنا هذه أحد المسئولين في الوزارة عن عيوب هذه الأسئلة والخلل في الامتحانات، وقد أجاب عن أسئلة الصحيفة بمكابرة لافتة لكن الكذبة الكبرى كانت في إفادته التالية عن السؤال حول التسييس “لا تسييس، بالعكس حريصون على منح الوظائف وفق الكفاءة وحتى الإسلامي له حق الوظيفة، لن يسأل خلاف كفاءته وأدائه” (حوار الصيحة مع السفير حسن عبدالسلام ٢ فبراير ٢٠٢١م).
إذا كان من حق الإسلاميين الحصول على وظائف فبأي تهمة تم طرد العشرات من الدبلوماسيين أصحاب الدربة والتأهيل والكفاءة والتجربة؟ هل تم التحقيق مع أي منهم والتوصل إلى انهم ينتمون إلى حزب سياسي؟ هل منحوا أي فرصة للتقاضي أمام محكمة مختصة للإعتراض على قرارات فصلهم وانتظار الحكم العادل؟
والسؤال الأهم هو بأي حق يتم طرح وظائف أشخاص لم يحسم أمر طردهم حتى وفقاً لقانون لجنة التمكين المعيب والذي يمنح المتضررين الحق في الاستئناف أمام لجنة الفريق إبراهيم جابر المعطلة والتي يضعها سعادته في درجه ويحتمي خلف جدر الصمت والتخفي؟
ماذا إذا قررت المحكمة في وقت لاحق الحكم بعدم قانونية فصل الدبلوماسيين الذين طردوا من أعمالهم وحكمت بإعادتهم؟ هل سيتم فصل المعينين الجدد لعدم توفر أماكن شاغرة في وزارة تعاني اصلاً من الترهل والاختناقات الوظيفية؟
إن أول قرار للسيدة وزيرة الخارجية الجديدة ينبغي أن يكون وقف هذا الملف وإعادة النظر فيه بالحكمة والموضوعية والعدالة وفوق ذلك الشجاعة التي نثق أن الدكتورة مريم الصادق المهدي تتمتع بها فالحق أحق بأن يتبع.
نواصل بقية الملفات غداً
ملفات طارئة على طاولة المنصورة ٢-٢
بقلم
محمد عثمان ابراهيم
ستبدأ الوزيرة الجديدة في التعرف على الوزارة وأقسامها ودهاليزها وأضابيرها ولن تجد سوى خنادق الجماعات المتحاربة وآثار الدكتور منصور خالد الذي تحفظ له ذاكرة الدبلوماسيين السودانيين من معاصريه واللاحقين أنه كان الأكثر جرأة في تطبيق إصلاحات إدارية وسياسية غير مسبوقة، وأنه كان الأكثر ابداعاً في صياغة كتاب الدبلوماسية السودانية على أساس من المعارف، والثقافة، والفكر، والمصالح.
مضى وقت طويل منذ ان غادر الدبلوماسي الأكثر شهرة عتبات الوزارة وخلفه رتل من الوزراء لكنهم لم يكونوا -مع كامل التوقير لهم – بذات القدر من الإبداع والثقة بالذات، حتى الشيخ الترابي والأستاذ علي عثمان اللذان توليا رئاسة الدبلوماسية وخلفهما ماكينة ضخمة من التأييد والمساندة كانا أكثر انغماساً في السياسة وأقل اكتراثاً بالدبلوماسية.
طوال سنوات الإنقاذ اشتهرت الوزارة برواتب العاملين بها بالعملات الأجنبية أكثر من أي شيء آخر حتى بلغ الأمر أن وصلت المعايرة بالتسابق على تلك الرواتب إلى صفحات الصحف. هذه الرواتب العالية مقارنة بوظائف الحكومة الأخرى مقرونة بالعمل القليل وفرص التأهيل والتجارب والحصول على الإقامة في بلدان العالم الأول، أضعفت من مساهمة الدبلوماسيين في الشأن العام وفي شأن وزارتهم نفسه -رغم الكفاءة المشهودة للكثيرين منهم- محدودة وضعيفة وباهتة.
كتب السفير السابق حاج ماجد سوار مذكرة ينتقد فيها منشطاً محدداً فطرد من الوزارة كلها، وقدم السفير رحمة الله عثمان رأياً لم يرق لرؤسائه فاستدعي على الفور من أضواء نيويورك الساطعة، ثم حملت الوزارة اسمه تجول به على المنظمات لعلها تظفر له بمكان يخرجه من العتمة، وقد كان.
هذا الرعب مضافاً إلى الكتائب الحربية التي أشرنا إليها في الجزء الأول جعل الدبلوماسي هو الشخص الأكثر ميلاً للصمت والتحفظ، والأكثر ميلاً للتواري مهما كان موضوع الحديث خشية أن ينقل كلامه أو يفسر خطأ فيدفع الثمن حرماناً من النقل إلى إحدى المحطات الغربية وتنتهي خدمته وهو يتجول بين العواصم الأفريقية غير المرغوبة (للأسف الشديد).
أدخل أي منتدى للحوار وستجد الدبلوماسي هو الأكثر رعباً من ابداء صفحة نفسه وهكذا لم يخسر السودان خبرات أكاديمية وعلمية باهرة فحسب، وإنما خسر رجالاً أماجد ونساء ماجدات كان يمكن لمساهماتهم بالرأي والجدل والنقد والحوار أن تسهم في نقل تجارب العالم من حولنا إلينا دون ان نبرح وطننا.
ينتظر الدبلوماسي التقاعد ليكتب آراءه التي أعجزه الرعب عن قولها سراً وجهراً حتى إذا واتته الشجاعة لكتابة مذكراته تصدى له أحد جلاوزة الكتائب الحربية فعايره بالجبن والخور وكتم الشهادة حين كانت أجريته من دنانير السلطان موصولة.
إن مهمة الوزيرة الجديدة بالتنسيق مع أجهزة الدولة الأخرى هي أن تجعل العمل الدبلوماسي أقل جاذبية وأكثر إنسانية واحتراماً للعقول المميزة التي تقوم عليه.
وفي هذا السياق نشير إلى تصريحات أدلى بها مؤخراً وزير الخارجية الأسبق والدبلوماسي المخضرم إبراهيم طه أيوب محذراً الحكومة من تحويل الوزارة -وفق تعبيرنا- إلى منتجع للتقاعد المريح على حساب الفقراء في السودان حيث قال للصحفية المميزة والمهتمة بشئون وزارة الخارجية والعمل الدبلوماسي سوسن محجوب “ان بعض الوزراء في الحكومة السابقة سيسعون إلى تعيينهم سفراء في بعض السفارات المهمة” وحذر من ذلك بشدة (صحيفة السوداني ١١ فبراير ٢٠٢١م). هذا الحديث إن صح فإنه يعبر عن طموح معيب ورغبة لا تليق بالكبار.
لا بأس بأن نعيد بأن من الضروري إعادة النظر في جاذبية العمل الدبلوماسي كمكسب شخصي، ويمكن لتحقيق هذا الهدف النظر في مقترحات عملية بتقليل فترات الابتعاث، وتسريع حركته، ومعالجة الفوارق في الرواتب والاستحقاقات بين العواصم، وتنشيط حركة الانتداب الداخلي بين الخارجية ومؤسسات الدولة الأخرى، بما فيها الأكاديمية، نقلاً للخبرات والمعارف وتوطيناً وازهاراً واثماراً لها في حقولنا. لماذا لا يقدم دبلوماسيونا العائدون من العمل في الأمم المتحدة والمنظمات القارية والإقليمية ومختلف الدول دورات وورش عمل ومحاضرات لطلاب الجامعات ينقلون فيها تجاربهم هناك؟ أي جامعة أقامت ورشة للعدالة الانتقالية أشرف عليها دبلوماسيون عملوا في جنوب افريقيا أو رواندا أو المغرب أو اندونيسيا أو غيرها؟ يا للمعارف المهدرة!
بمثل هذه المبادرات والتفاعل مع المجتمع يبدأ طريق التحول من دبلوماسية الغنيمة إلى دبلوماسية الخدمة الوطنية حيث يمتد اشراق المؤسسة المهيبة إلى داخل بلادنا.
***
كتابنا الدبلوماسي يخلو من التقاليد إلا لبس الجلباب والعباءة العربية والعمامة بالنسبة للسفراء عند تقديم أوراق اعتمادهم، وتقديم الكركدي في مقرات السفارات أما غير ذلك فلا توجد ثوابت. كلما جاء وزير جديد للخارجية يتخيل أنه مركز العالم ويحاول البداية من الصفر.
لا يوجد موقف ثابت من السلام العالمي ومن النزاعات المزمنة ومن القضايا الدولية ذات الأهمية والتي ينبغي لكل مواطن عالمي (Global Citizen) أي يبدي رأيه فيها مثل قضايا الهجرة واللجوء، وتبعات الحروب، والجريمة المنظمة، وانتشار الأسلحة، والهيمنة الأجنبية، والاستعمار الجديد، وإصلاح الأمم المتحدة، وإعادة تعريف الإرهاب، ومعاداة المسلمين، وصدام الحضارات، والرق الجديد، والتجارة والاتصال في عصر الإنترنت، والعدالة الدولية، والتدخل المتجاوز لسيادة الدول لأسباب انسانية وهذان ملفان شديدا الحساسية بالنسبة لمستقبل اقامتنا كدولة في بيت العالم، وحماية البيئة، وعالم ما بعد الكورونا حيث باتت الحاجة إلى استراتيجيات دولية لحماية النوع الإنساني على كوكب الأرض أكثر أهمية والحاحاً.
هذه وغيرها قضايا تستحق ان تعقد من أجلها المناقشات بحيث يكون للخارجية كتاب منير في كل قضية تحتكم إليه ولا تحيد عنه، ولا يكون في ذات الوقت معيقاً للبلاد من التفاعل الخلاق والتنسيق مع دول العالم حول ما يستجد من قضايا وأزمات، وما يبدعه العقل البشري من مبادرات لإصلاح حياة الناس على الأرض.
إن الحاجة إلى رفع القدرات التقنية للوزارة من معارف ووسائل اتصالات حديثة تربط جميع البعثات برئاستها في الخرطوم ضروري جداً في مرحلة ما بعد الكورونا حيث صارت المؤتمرات تعقد دون أن يغادر المرء غرفة مكتبه. حان الوقت لأن يتحول مقر الوزارة إلى خلية عمل حديثة وليس إلى وكالة سفر تستهدف ملاحقة المؤتمرات والمحافل التي تعقد في الخارج اصطياداً للمتعة والنثريات. إن تكاليف رحلة واحدة لوفد مثل وفد السودان الذي سافر لحضور قمة الأرض في جنيف قبل أعوام أو فد السودان الذي سافر لتهنئة الرئيس المكسيكي بانتخابه وحضور مراسم أدائه للقسم قادرة على انشاء غرفة رفيعة المستوى للمؤتمرات الأثيرية في مبنى الوزارة.
***
تحتاج الوزارة العتيقة إلى مشروع جديد للنهوض بالعمل الدبلوماسي ليكون ساعداً للاستقرار والأمن والاقتصاد والاستثمار بحيث يستوعب جميع آليات قوتنا وفي هذا فإن إعادة تشكيل هياكل وشعب الوزارة لتستوعب المفاهيم والنظريات الجديدة للعمل الدبلوماسي.
حين أنجز الراحل منصور خالد مشروع تثوير مؤسسة الدبلوماسية السودانية لم تكن مفاهيم الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة وغيرها مما يقول به الخبراء ونحن هنا نغرف مما كتبوا دون مزاعم بإنتاج فيها. نلعب دورنا ككتاب مهمتهم التنوير والتبصير والبحث ونقل المعارف بكل تواضع وطيبة خاطر ودون ادعاءات.
نحتاج بشكل ضروري إلى إعادة تأسيس هياكل الوزارة لتكون حاملة لأهداف جديدة.
لولا أن الكلام يعاد لنفد وفي هذا الصدد ربما كان من الضروري أن نعيد تقديم بعض الأفكار التي سبق لنا الجهر بها في مناسبات فربما تهيأت لها لحظة استجابة.
تحتاج وزارة الخارجية للاقتراب أكثر من التجارة الخارجية والاستثمار ليس في الخارج والعاصمة فقط، وإنما على امتداد البلاد. نريد مكتباً لوزارة الخارجية في عواصم الولايات يستقبل المستثمرين الأجانب ويشارك في حضور اجتماعاتهم مع السلطات الولائية، ونريده مكتباً يقي المواطنين في الولايات من السفر الى الخرطوم لأجل توثيق شهادة تلك التي يغادر من أجل وضع ختم الوزارة السامي عليها آلاف الناس من الأقاليم فيخسرون آلاف الجنيهات مقابل خدمة كان ينبغي أن توفرها لهم الدولة في أماكنهم.
نريد وزيراً جديداً للخارجية يدرك أن وزارته هي آلية لصناعة وبلورة وتنفيذ السياسة الخارجية للبلاد مع أجهزة الدولة الأخرى لا احتكارها، ويعلم أن التخطيط للعلاقات الدولية للبلاد ينبغي أن تشارك فيه قطاعات واسعة من الدولة عبر الآليات الرسمية وغير الرسمية المساعدة، ونريد وزيراً رأى الخارج لا وزيراً يحمل جواز سفره في جيبه وهو يخطط لأن يبقى طول العام خارج الوطن.
نريد وزيراً نقياً من الغبائن وجرثومة صراعات الوزارة وحروبها الداخلية، نريده نقياً ليس في عنقه بيعة لأمير في جماعة سرية أو مندوب لحزب علني. نريد وزارة تعنى بجذب الاستثمار والحرص على أن تكون منشئات السفارات واجهات لجذب المستثمرين، وتقديم الأفكار لهم وفقاً للخارطة الاستثمارية للبلاد لا مكاتب لمنح التأشيرات وتحصيل الرسوم. نريد وزيرة حين تزور السفارات ترى تلك المستأجرة بمبلغ يفوق ما تستحق من قيمة، وحين تزور العقارات المملوكة للسفارات، تراجع عقود شرائها وتعرف هل دفع الشعب السوداني ثمنها المستحق أم أنه انخدع! نريد وزيرة تمثل مصالح الشعب، لا نقابية تهتف دفاعاً عن الامتيازات.
نريد سفارات نظيفة مثل سفارتنا في أبوظبي والدوحة لا سفارات قذرة مثل سفارة السودان في القاهرة أو كوالالمبور.
***
وقبل أن نختتم نود الإشارة إلى قرار فاجع بإغلاق عدد من السفارات ضمن إجراءات التقشف وضبط النفقات وأشارت الأنباء إلى أن القرار شمل عدداً من السفارات في افريقيا إضافة إلى سفارة السودان في تايلاند. هذا قرار غير موفق ولم يراعي النفقات وإنما اهتم بخدمة المطالب النقابية للدبلوماسيين الذين عادة لا يرغبون في العمل في تلك السفارات. كم تكلف سفارة السودان في بانكوك أو ياوندي مقارنة بما تكلفه بعثة السودان في الأمم المتحدة أو سفارة السودان في واشنطن أو لندن أو باريس أو دبلن؟
وبعد، كل الأمنيات الطيبة للسيدة الوزيرة الجديدة أن تكون رئيسة للدبلوماسية الوطنية السودانية وليس زعيمة لنقابة للمسافرين ومطمعاً لمحبي المغانم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم
محمد عثمان ابراهيم
الصيحة
أول شيء يجب التوقف عن استعماله هو إطلاق صفة المنصورة على مريم الصادق المهدي دعونا من هذه الصفات والألقاب التي لا تعبر عن شيء إلا عن نفاق من يطلقها وتؤدي لتضخيم شخصية من أطلقت عليه
فكفوا عن إطلاق هذه الصفات والمسميات وليكن التعامل بتواضع وواقعية.
نتعشم خيرا سعادة المنصورة الحبيبة في ان تقودي من منصبك للخارجية السودان لاحسن علاقات خارجية ومكاسب ومنافع تحفظ كرامة السودان