ضياء الدين بلال

(مساخر سودانية)!


-١-
الموقفُ كان لا يخلو من الطرافة وبعضِ العبث.

كان ذلك في أيام مشروع التوالي السياسي وتسجيلِ الأحزاب أواخرَ التسعينيات .
طبيبٌ نحيفٌ على رأسه بياضٌ به غباش، يحمل حقيبةً سوداء، تنوءُ بحملٍ كثيرٍ من الأوراق.
الحقيبةُ كانت قابلةً للانفجار!.
إصبعُ السبَّابة كان قريباً من نظارته الطبيَّة، غير المستقرة على الأنف.
في كل مرة يعدِّلُ من وضعها…
دلَف الدكتورُ إلى صحيفة (الرأي العام).. كان يبحثُ عن رئيسِ القسم السياسي، حينئذٍ كنتُ أشغلُ ذلك الموقع .
الدكتورُ جاء لتوِّه من مكتبِ مسجل الأحزاب، في نهارٍ قائظ.
ذِكْرُ غرضِ الزيارة جاء بعد التعريفِ وتقديمِ السيرة الذاتية.
الزائرُ طبيبٌ متخصصٌ في أمراض المناطق الحارة، وأظنُّ أن له تخصصاً دقيقاً في الملاريا.
غرضُ الزيارة التعريفُ بحزبه الجديد، الذي أطلق عليه اسم حزب الشفاء.
كلُ برنامجِ الحزب يقومُ على مشروع علاج الملاريا.
في تصوُّر الرجل، أن الملاريا سببٌ أساسيٌّ لكل أزمات السودان، الاقتصادية والاجتماعية، وما يترتبُ عليها من أزماتٍ سياسية وأمنية!.
نقاشٌ وجدالٌ وإحصائياتٌ وأرقام؛ استمر لأكثر من ساعة حول الحزب وبرامجِه والعضويةِ المستهدفة.
-٢-
المهمُّ أن الرجل من ثقبِ تخصصه الضيِّق، كان ينظرُ لكل أزماتِ السودان!.
أنثى الأنوفيلس، هي العدوُّ الأول، لا التضخم، ولا الحروبُ ولا الفقر !.
أنثى الأنوفيلس أخطرُ على السودان من الإمبريالية العالمية، ومن عملياتِ الثعلبِ الأسود، والأمطارِ الغزيرة!.
لا أعرفُ إلى ماذا انتهى ذلك الحزبُ، وأين رئيسُه الآن؟!.

-٣-
لا أزالُ أستخفُّ بمحاولات كثيرٍ من السياسيين، تقديم تصوراتٍ قانونية، لتجاوز الأزمات السياسية.
كنت أقولُ إنهم ينظرون من ثقبٍ قريب، من ذلك الذي كان ينظر منه صاحب حزب الشِّفاء!.
رئيسُ حزب الشفاء، مقتنعٌ بأنَّ الحل في تجفيفِ البرك والمستنقعاتِ ومحاصرةِ أنثى الأنوفيلس.
وأهلُ القانون من السياسيين، يرون أن كلَّ أزماتِ السودان، ستُحلُّ في وجودِ دستورٍ محكمٍ وقوانينٍ محددة وبس!

-٤-
معظمُ الجدلِ السياسي في التاريخِ المعاصر، كان منحصراً في القوانين والدساتير.
الحديثُ عن الدستورِ الإسلامي، عجَّل بانقلاب الشيوعيين في مايو69.
الرئيسُ جعفر نميري، حينما تكاثرت عليه الأزمات، اختار مقاومتَها عبر تطبيقِ القوانين الحدية، وبخراتِ شيوخ مايرنو .
الموقفُ من قوانينِ سبتمبر 83، كان مركزَ النزاع في الديمقراطية الثالثة، من البداية إلى النهاية!.
سعْيُ الترابي لتعديلِ الدستورِ في 1999، عجَّل بحدوث انقسام الإسلاميين.
غلبةُ وجود القانونيين في الأحزاب السياسية، هو الذي يُعلي من أهمية وقيمة كل ما هو متعلِّق بالقانون والدستور.
-٥-
وعلى الضفة الغربية للنيل، بالقرب من المقرن، وُضعت لافتةٌ حديديةٌ مكتوبٌ عليها:
(ممنوع بتاتاً الاستحمام في هذا المكان بحكم القانون).
لافتةُ المنع أصبحت شماعةً لملابس متجاوزي أوامر القانون (وديك يا جلبغة)!.
-٦-
حكى لي محامٍ كبيرٌ وشهيرٌ أن أحد المحبوسين بسجن كوبر منذ عامين، فُتحت عليه عشرةُ بلاغات.
كلَّما يتم شطب بلاغ في نيابة، ينقل إلى نيابة أخرى، ثم يعود مرة أخرى إلى النيابة الأولى!
وفي قضيةٍ شهيرة تنازلت الوزارةُ المعنيَّة عن بلاغٍ ضد متهم، ذلك ما لم يعجب النيابة.
تصوروا ماذا حدث أعزَّكم الله ؟!!

وجه كبيرُهم كتابةً، بضرورة تغيير (الشاكي)، حتى لا يُغلق ملفَّ القضية…!
-٧-
مركزُ أزماتِ السودان ليس مستنقعاتِ الباعوض، ولا نصوصَ القوانين وأحكام الدساتير الدائمة والمؤقتة.
مركزُ الأزمة ثقافيٌّ اجتماعيٌّ، أنتج نخباً سياسية، تفتقد صفتين، هما: الجدية والصدق.
وجماهيرُ يتميز عقلُها بتساكن المتناقضات، والجمعِ بين الأضداد، الإيمان بشيء وفعل نقيضه!.
ألم يقلِ الشاعر:
قتلتنا الردِّة ..كلٌّ منا يحملُ في الداخل ضدَّه…!

قواعدُ شعبيةٌ لا تحترمُ القانون، ونخبٌ انتهازيةٌ تستثمر في ثغراته!.
بكلِّ تأكيد، المشكلةُ ليست في أنثى الأنوفيلس، ولا في القوانين، ولكن في ثقافةِ التعامل معها: (وَضْعُ الملابس على لافتة المنع)!.

صحيفة السوداني


تعليق واحد