جعفر عباس

فيروس الفشخرة الوبائي


واقعة ستظل عالقة بذاكرتي: قدمت عروس لوالدة زوجها “موية رمضان” محملة في شاحنتي ميتسوبيشي عليهما سكر وتمر وعدس وكباش ورز ومعها “هز يا وز” في شكل خادمة فلبينية مدفوعة الأجر لستة أشهر، إلى جانب معدات مطبخ بسيطة مثل الغسالة والثلاجة والديب فريزر وفرن المايكروويف (حتى بعد اغترابي في منطقة الخليج بسنوات كنت أعتقد أن المايكروويف نوع من المكرونة وأن الأوزون أكلة يونانية)، ولا أعرف ماذا ستهدي العروس حماتها في عيد الأضحى؟ قرنتية/ جاموس الخلا؟ وحيد القرن؟ هل تذكرون القرنتية التي ضلت طريقها إلى ضواحي عاصمتنا قبل سنوات، ثم اختفت في ظروف مريبة، واتضح أنها اختفت في بطون من اصطادوها (لو أحسنوا التصرف يفترض أن لديهم شرموط لحم قرنتية إلى يومنا هذا)
وبالتأكيد فإن فيروس الفنجرة والعنطزة الذي أصاب أهل المدن في بلادنا أسهم في الشطط في طقوس كانت فيما قبل بسيطة وغير ملزمة في الأفراح والأتراح، ومثلا في اليوم السابع لوفاة شخص ما كان أهله يطعمون المعزين أشياء بسيطة مثل البليلة والتمر تحت مسمى صدقة والآن صار أهل المتوفى يقدمون في ذلك اليوم الزلابية/ اللقيمات والشاي المدنكل باللبن (من قال للسودانيين إن تقديم الشاي باللبن في بيوت العزاء حرام أو مكروه؟) ثم صارت الأرملة تكمل عدتها (فترة الحبس) فتتم دعوة الأقارب والمعارف من النساء إلى وليمة يتوقف عدد و”مستوى” محتوياتها على الحالة المادية للأرملة، ولن ينطوي حين طويل من الدهر حتى يصبح تقديم الآيسكريم والبيتزا في مثل تلكما المناسبتين ممارسة عادية، واستند في هذا على ما أراه في صيوانات العزاء، وفي السودان الذي أعرفه لم يكن أهل المتوفى مسؤولين عن تقديم شيء للمعزين سوى الماء والشاي، لأن الجيران كانوا ملزمين “أخلاقيا وعرفيا” بإحضار الطعام من بيوتهم إلى مكان تلقي العزاء، ولأن الناس كانوا يتكافلون في المآتم فقد كان تلقي العزاء يستغرق من 3 إلى 7 أيام، ثم صار الموت مناسبة للبوبار وفك الزرار، حيث تكون صينية الغداء التي يقدمها أهل مرحوم غلبانين تتألف على الأقل من أربعة أصناف، (على نفقتهم لأن الجيران صاروا بتاعين ميتات بعد اندثار تقليد التكافل في المآتم) أما الأثرياء الجدد، فقد سمعنا عمن يأتون بطعام المعزين من الفنادق والمطاعم الفاخرة ومعه جرسونات بكرافتات، واستفحلت الظاهرة حتى صاحبتها سلوكيات لم تكن تشبهنا بأن يتسابق الناس إلى سرادقات العزاء في مواعيد الوجبات ليأكلوا طعاما طيبا ببلاش و”المرحوم يدوسنو طوباتو”.
على أيامنا كان الطفل يخضع للختان وعمره ما بين 4 إلى 8 سنوات، ولكن تلك الاحتفالات كانت بسيطة: فتة وشاي، وكان حفل الختان مناسبة لتلقي المختون هدايا نقدية وعينية (عندنا في بلاد النوبة قد تكون هدية المختون نخلة أو معزة إلخ)، وحفلات الزواج فيما مضى كانت تستمر لقرابة أسبوع أو أكثر، ولم تكن تكلف العريس شططا لأن الناس كانت “تتشايل”، وليلة حنة العريس كانت مهمة لا يفرط فيها رجل مقدم على الزواج، لأن النقوط كانت تنزل على رأسه ثم تجد طريقها إلى جيبه وقد يطلع في النهاية كسبان وربحان، وكان هناك “الكشف” وهو إسهام كل من يحضر حفل الزفاف بمبلغ في حدود إمكاناته، أو بما يزيد قليلا على ما سبق أن دفعه له العريس في (من أسهموا في كشف زواجي “أكلوا هوا” لأنني طفشت من السودان بعد الزواج ولم أرد لهم الجميل بنظام الصاع صاعين)، وتستمر الحفلات أياما عديدة لأن الأقارب والأصدقاء كانوا يقدمون للعريس الخراف والحبوب من ذرة وقمح، ولم يكن الناس مصابين بالزلعة، وبالتالي لم تكن السفسفة سببا في حضور الناس الحفلات الممتدة، فقد كان غالبية من يحضرون تلك الحفلات ما قبل وما بعد حفل الزفاف الرئيسي، يأكلون الوجبات في بيوتهم ويتوجهون إلى بيت الفرح للهيصة والصفقة والرقيص
وحفلات الزواج على أيامنا هذه تستغرق يومين أو ثلاثة، يتم خلالها ضغط نحو خمس أو ست فعاليات: الحنة والجرتق والقيدومة والصبحية وفطور العريس الذي يجعله الإنفاق عاجزا عن ذبح الكديس، والليلة الكبيرة، ويسبق كل ذلك قولة الخير وفتح الخشم
باسم إحياء عاداتنا صارت مراسيم الزواج “سيرك” يكون فيه العريس أكثر الناس جوعا أثناء الولائم التي يلهط فيها الناس “شقا عمره”، فكلما امتدت يده بلقمة إلى فمه جاءه طابور: أبشر يا عريس ،حتى يكاد يقول لهم: وانتو مش حتنتشروا؟
وما لا يعرفه الكثيرون هو ان الجرتق وبالمعايير الإسلامية طقس وثني يقصد به تحصين العرسان من العين بالجعارين (الخنفسانة) وأنواع وأشكال معينة من المنحوتات الخزفية، وهو متوارث عن الحضارة النوبية وأصل الكلمة “جرتي” وتضاف القاف في أواخر الأسماء في اللغة النوبية للتعريف والتوكيد (نبهت من قبل كما نبه غيري إلى أن جنيه الذهب الذي قد تستخدمه العروس أو المرأة النفساء أيضا منقول عن الثقافة النوبية في الحقبة المسيحية، لأن ذلك الجنيه يحمل في أحد وجهيه صورة الملك الإنجليزي جورج بينما الوجه الآخر بأكمله صليب ضخم، والاعتقاد السائد هو ان ذلك الجنيه يحصن النفساء ضد “المشاهرة والكلبش”

جعفر عباس
صحيفة التحرير


تعليق واحد

  1. يقول الله سبحانه وتعالى:
    (ٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱ وَزِینَةࣱ وَتَفَاخُرُۢ بَیۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرࣱ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِۖ كَمَثَلِ غَیۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَاهُ مُصۡفَرࣰّا ثُمَّ یَكُونُ حُطَـٰمࣰاۖ وَفِی ٱلآخِرَةِ عَذَابࣱ شَدِیدࣱ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣱۚ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ)
    [سورة الحديد 20]