رأي ومقالات

عبد الرحيم مكاوي.. “أبُ المكتبات في السودان” في رحاب الرحمن


غيب الموتُ الذي هو علينا جمعياً حقٌ لا مفر منه، إن انقضت الآجال، وتبددت الآمال، الأستاذ عبد الرحيم محمد حسن مكاوي بعد مُضي فترةٍ في القضاء المؤجل الذي هو المرض، فانتقل يوم الثلاثاء الماضي (30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021)، إلى القضاء المبرم الذي هو الموت، عن عُمرٍ يُناهز ال84 عاماً، وشُيع جثمانه إلى مقابر حلة حمد بالخرطوم بحري. فقد شق نبأ وفاته عليّ وعلى الكثيرين من عارفي فضله، وسبقه في نشر الكتاب والأدب والثقافة، ولكن سرعان ما أدركت أن كل نفسٍ ذائقة الموت، تصديقاً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُون”. وله من الأبناء أحمد ومحمد وإخوانهما، وشقيقه هو الشاعر السوداني المعروف عبد الرحمن محمد حسن مكاوي.
وُلد الأستاذ عبد الرحيم محمد حسن مكاوي في عام 1937 بمدينة بربر في ولاية نهر النيل، قُبيل الحرب العالمية الثانية بسنتين. وبدأ حياته العملية وهو في ريعان الشباب (17 عاماً) موظفاً في السكة حديد. ومن ثم نُقل إلى القضارف، ولكنه بعد حينٍ من إنفاذه لقرار النقل، تقدم باستقالته دون إبداء أسبابٍ وحيثياتٍ لهذا القرار، ليخوض غمار العمل الحُر، حيثُ كان يبيع الكتب في الطرقات في مدينة القضارف! وبعد حينٍ من الزمان، افتتح مكتبة صغيرة (كشك) لبيع الصحف والمجلات بالقضارف. واتخذ قراراً جريئاً آخر، بالانتقال إلى الخرطوم، وذلكم في الستينات من القرن الماضي، حيث بدأ بمكتبةٍ صغيرةٍ، لبيع الكتب حتى بلغت المكتبة 50 ألف كتابٍ، وتحتل حالياً موقعاً متميزاً في وسط الخرطوم، وأصبحت معلماً بارزاً من معالم شارع البلدية بالخرطوم. وكان من أهم رواد هذه المكتبة أستاذيّ الرحلان البروفسور عبد الله الطيب والبروفسور عون الشريف قاسم. كانت الدار السودانية للكتب التي تأسست في عام 1971، إلى جانب ارتياد البروفسورين عبد الله الطيب وعون الشريف قاسم لها، يرتادها كبار الكُتاب وأساتذة الجامعات وجمهور المثقفين. وكنتُ أرتادها في رفقة أستاذي العلامة الراحل البروفسور عبد الله الطيب لسنين عدداً منذ العهد الطالبي بجامعة الخرطوم، من خلال هذا الارتياد توثقت صلتي به. كما أنه كان جاراً وصديقاً للأخ الصديق علي محمد عثمان يسن وزير العدل الأسبق، فكنتُ عندما آتي إلى السودان، من مقر عملي في لندن، كثيراً ما ألتقيه معه. وكان حضوراً متميزاً في احتفائية الأخ علي محمد عثمان يسن، بتسنم صديقه وابن دفعته في مدرسة خور طقت الثانوية وجامعة الخرطوم البروفسور مأمون محمد علي حُميدة، ودعيت إلى تلكم الاحتفائية، عند مقدمي من لندن إلى الخرطوم، فتآنست معه طوال ذاكم الحفل، وازدادت صلتي به، وكنتُ كلما آتي إلى الخرطوم، أفسح له مجالاً في برنامج زياراتي. كان الراحل الأستاذ عبد الرحيم مكاوي متواضعاً حليماً، ودوداً كريماً، وطيباً بشوشاً، يلقاك بابتسامةٍ عريضةٍ، ويحييك بترحابٍ متميزٍ، فيه عمق الطيبة، ودفء السودان. وكنتُ أجد متعةً أيمّ متعةٍ في مؤانسته وأحاديثه مع أستاذي البروفسور عبد الله الطيب. فكان جميل هذه اللقاءات أنها تجمع بين المؤانسة والثقافة، وتنداح فيها الأحاديث والذكريات. كان عصامياً معتداً بعصاميته، ولبقاً حصيفاً في مؤانستة لأولئك النفر الجهابيذ.
أخلص إلى أن الدار السودانية لصاحبها ومؤسسها الراحل عبد الرحيم مكاوي، تُعد من أشهر وأكبر دور الكتب السودانية في السودان. وارتبط صاحبها بالكتب منذ سنوات طويلة، وكان رئيساً لاتحاد الناشرين السودانيين، وعضواً في اللجنة التنفيذية لاتحاد الناشرين العرب. وقد أسهم الراحل عبد الرحيم مكاوي إسهاماً فاعلاً، لا تُخطئه العين في خارطة الكتاب السوداني، بإصدار الكتب وتوزيعها، فكراً ونثراً وشعراً، في ضروب السياسة والاقتصاد والثقافة والأدب والمذكرات، وهلم جرّا. وقد عُرف عنه التواضع الجم، وكان رجلاً عصامياً، شق طريقه في الحياة، يروم تسلق المعالي، بثباتٍ وثقةٍ. ويُعد فقده فقداً عظيماً في عالم الكتاب، ودنياوات الثقافة.
فلا غروّ، أن كرمته جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، عِرفاناً بجهده المتعاظم، وتقديراً لإسهامه الفاعل، في نشر الكتاب، ومن ثم المعرفة والثقافة، ضمن فعاليات معارض الكتاب والفنون التشكيلية والتراثية الذي نظمته الجامعة في إطار احتفالاتها بيوبيلها الفضي في الفترة من 4 – 9 سبتمبر (أيلول) 2021. وجاء تكريمه استمراراً على ما درجت عليه الجامعة من تكريم المبدعين والشخصيات العامة، منهم البروفسور علي محمد شمو والشاعر عوض أحمد خليفة والمسرحي حمدنا الله عبد القادر وعثمان سفارة وآخرون.
في خاتمة هذه العُجالة أسأل الله تعالى، أن يتقبله قبولاً طيباً حسناً، ويُنزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، ويتغمده بمغفرةٍ، وأجرٍ عظيم، مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. ويُلهم آله وذويه وأهليه وعارفي فضله الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.

إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com